السيناريست عماد النشار يكتب: الهجرة النبوية الشريفة بين نور الرسالة وظلمة الواقع


كان الأذى يزداد يوما بعد يوم، والخناق يضيق على محمد، حتى صار هواء مكة مليئا بالألم، ومع كل صباح كانت سياط الظلم تنهال على الضعفاء من أتباعه، وكان قلبه الذي لم يعرف سوى الرحمة يتلقى الأذى في صمت.
لكن الهجرة لم تكن هروبا، لم يكن محمد ممن يفرون حين تعصف العواصف، بل كانت بداية جديدة، لا نحو الفراغ بل نحو بناء أمة.
كان قلبه متعلقا بمكة، بالبيت الذي نشأ فيه، بالأزقة سمع فيه صوته طفلا، بالكعبة التي وقف عندها داعيا باكيا، لكن الأمر الإلهي كان واضحا، والخطوة الكبيرة بدأت ترسم بحكمة لا يراها إلا من امتلأ قلبه بنور الله.
في عمق الليل، حين نام الناس وسكنت الحراسة الوثنية، كان علي بن أبي طالب يتهيأ لمهمة أكبر من عمره، يضطجع في فراش محمد، يغطي جسده بردائه، يعلم أن الخطر قريب، لكن قلبه مليء بالشجاعة والإيمان.
بعيدا عن أعين الناس، في غار يقع فوق جبل مرتفع، كان محمد وصاحبه أبو بكر يختبئان، ثلاثة أيام من الصمت والتأمل والثقة بالله، لم يكن الغار جدارا للحماية فقط، بل كان محرابا امتلأ بالطمأنينة.
حين اقتربت الأقدام من فم الغار، كان الكفار يبحثون عن محمد، ولم يروا شيئا، فقد حماه الله بخيوط عنكبوت وعش حمام بسيط، وكأن الطبيعة كلها اجتمعت لتحفظ من يحمل النور.
كان أبو بكر قلقا لا على نفسه، بل على من بجانبه، فنظر إليه محمد بابتسامة مطمئنة، تخترق الخوف، وكانت عيناه تقول لا تحزن إن الله معنا.
حين غادرا الغار، لم يكونا رجلين عاديين، بل كانا يسيران والتاريخ يسير معهما، واختار محمد دليلا للطريق لم يكن من أتباعه، بل من المشركين، واسمه عبد الله بن أريقط، وكان ماهرا وأمينا، لأن الأمانة لا تقاس بالدين فقط، بل بالفعل والصدق.
على الطريق، كان الصمت يتكلم، والرمال تحفظ خطواتهم، وكانت الهجرة بداية فصل جديد، امتزج فيه الإيمان بالخطر، والمحبة بالخوف، لكنها مضت لأنها تحمل رسالة لا تعرف التوقف.
في المدينة، كان هناك قوم ينتظرون، لم يسبق لهم أن رأوا محمدا، لكنهم أحبوه قبل أن يلقوه، فتحوا له بيوتهم، وقلوبهم، وتقاسموا معه ومع أصحابه كل ما يملكون، كانوا الأنصار، رجال ونساء لم يسألوا عن الأنساب، ولم يضعوا شروطا، بل قالوا هذا لك، وأنا لك.
بهذا الحب والإيمان والإيثار، بدأت أمة جديدة تتشكل، وكانت اللبنات الأولى تبنى على العدل والرحمة والوفاء، و المدينة تتحول من مكان صغير إلى مركز لحضارة تغير وجه العالم.
لكن الصورة تتغير، الزمن يسرع،و العدسة تنتقل من زمن إلى آخر، حتى تصل إلى حاضر مثقل بالألم.
في غزة، لا غار ولا جبل، بل أنقاض تتساقط، وأطفال يصرخون تحت الردم، لا يسمعهم أحد، الدماء في الشوارع، والسماء تمطر عليهم حمم ومقذوفات، والعالم يشاهد بصمت، كأن الرحمة رحلت،و الإنسانية تحجرت.
وفي السودان، الأرض تميد تحت أقدام أهلها، النزاع لا ينتهي، الجوع يطارد الصغار، الليل طويل، والأمل بعيد، والقلوب تتعب من الانتظار.
وفي سوريا، نهر من الدموع لا يجف، اختلطت الدموع ببحر من الدماء، مدن تهدمت، وذكريات طُمست، ووجع لا يهدأ.
وفي اليمن، أنين مستمر، لا دواء يداويه، ولا غذاء يسنده، أطفال ينامون جوعى، وأمهات ينتظرن معجزة لا تأتي.
كانت الأمة يوما واحدة، قوية، متماسكة، كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، أما اليوم، فهي أشلاء، كل جماعة إلى قبلة، كل فئة إلى رأي، وكل صوت يغني على ليلاه.
وقد أخبرنا من لا ينطق عن الهوى، حين قال يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله، قال بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل.
نعود اليوم لنسأل، من أين نبدأ، أين ذهبت تلك الروح التي حملت محمدا وصاحبه في طريق الهجرة، أين ذهبت العزيمة، وأين ضاع الإيمان.
الهجرة لم تكن ذكرى تمر، ولا مناسبة سنوية، كانت منهاجا وخطة وعهدا مع الله، كانت بناء لا بكاء، كانت فعلا لا شعارا.
نحن اليوم أحوج ما نكون إلى هجرة جديدة، لا نغادر فيها أرضا، بل نغادر الخوف والكسل والتردد، نترك خلفنا الاتهام والتشكيك والانقسام، ونتجه نحو الوحدة والوعي والعمل المخلص، بعزم لا يفتر ، وإرادة لا تلين.
فلنهاجر من العجز إلى الفعل، من الاستهلاك إلى البناء، من الغفلة إلى اليقظة، من التبعية إلى القيادة ،لنعد كما كنا، أمة تقود لا تُقاد، تصنع لا تنتظر، توحد لا تفرق.
كما صدق الصحابة وعدهم مع الله، فلنصدق نحن أيضا، فلعلنا نستحق نصرا تأخر، لا لأنه بعيد، بل لأننا ابتعدنا عنه.