السيناريست عماد النشار يكتب: الجاثوم والحاسوب وجهان لسطوة واحدة


ما بين كائن خرافي يداهمك في عتمة نومك، وآلة تكنولوجية تبدو بريئة، لكنها تقتحم يقظتك وتخطف انتباهك، يجد الإنسان نفسه ضحية جاثومين، أحدهما يهاجم الجسد، والآخر يسلب الإرادة والعقل. إنها مفارقة مرعبة حين يتحوّل الليل إلى كابوس بيولوجي، والنهار إلى شرك رقمي، لنكتشف بسخرية مريرة أن الرعب لم يعد يسكن الليل فقط، بل بات يمتد معنا حتى في وضح النهار.
لا شيء يُرعب الإنسان كعجزه، عندما تستيقظ فجأة لتجد نفسك عاجزًا عن الحركة، العين تفتح، القلب ينبض، لكن الجسد يرفض الانصياع. هذا هو "الجاثوم"، الكائن الليلي الأسطوري الذي يغتصب لحظات سكونك، ليذكّرك أنك لست سيد هذا الجسد تمامًا.
لكن دعونا ننتقل من الليل إلى النهار، وباقي اليوم من الوسادة إلى الشاشة، عندما يجثم الجاثوم ونفتح الحاسوب الذي أصبح اليوم داخل الهاتف المحمول، نسلم أنفسنا له بكامل وعينا، ويفعل بنا ما يشاء، خوارزميات تعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا، منشورات مموّلة تسرق انتباهنا، إشعارات تتسلل كما يتسلل الجاثوم إلى صدر النائم. هل نحن أحرار أمامه؟ أم سجناء في دهاليز "الترند"، و"الفلاتر"، و"اللايكات" التي تمطر علينا، كما تمطر الكوابيس على نائم لم يتحصن بالأذكار؟
اقرأ أيضاً
السيناريست عماد النشار يكتب: جبرتي القرن ومستقبل الدراما
السيناريست عماد النشار يكتب: لجنة صنع الله إبراهيم لمستقبل الدراما!
السيناريست عماد النشار يكتب: سماء من ورق
السيناريست عماد النشار يكتب: وَهُمْ مِنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغْلِبُونَ
السيناريست عماد النشار يكتب: فن عشق القراءة
السيناريست عماد النشار يكتب: أنقذوا الطبيب محمود قنيبر قبل أن نفقده للأبد!
السيناريست عماد النشار يكتب: الحقّ ينتصر بذاته وبأدواته
السيناريست عماد النشار يكتب: سَنَوَاتٌ بِلَا بَرَكَةٍ.. وَعَاصِفَةٌ عَلَى كُلِّ الطُّرُقِ
السيناريست عماد النشار يكتب: إحنا آسفين يا زمان!
السيناريست عماد النشار يكتب: قَطَايفُ سَامِحٍ وَقِطَّةُ مِهْسَاسٍ
السيناريست عماد النشار يكتب: العَالَمُ يُدَارُ بِمِقْيَاسِ بُرُوكْرِسْت
السيناريست عماد النشار يكتب: إلى ربات ”الروبوت”!
الجاثوم البيولوجي قد يأتينا مرة في الشهر، أما الجاثوم الرقمي، فهو يُقبّل جبهتنا كل صباح، يدغدغ إصبعنا لتنقر، ويوسوس في آذاننا لنبقى قليلاً، هناك فيديو جديد لا يمكن تفويته، والأدهى نبتسم له، نرحب به، ونهيئ له المكان، كما يُهيّأ للضيف الثقيل فنجان القهوة.
الجاثوم كائن صريح. لا يختبئ، لا يجامل، لا يطلب كلمة سر. يأتينا صراحةً، يجثم على صدورنا، يطبق على أنفاسنا، ثم يرحل كما جاء. لا إشعارات، لا تحديثات، فقط لحظة رعب خالصة.
أما الجاثوم الآخر، ذلك الذي تغمز لنا شاشته من بعيد، فهو أكثر دهاء، لا يهاجم دفعة واحدة، بل يتسلل، يبدأ بإشعار بسيط، صديق نشر قصة جديدة، ثم يأخذنا في جولة لا نعرف لها نهاية، قبل أن ندرك أننا قضينا ساعات نتابع فيديوهات أخرى على تطبيق لا نعرف متى وكيف قمنا بتحميله!
الفرق بين الجاثومين، الأول يُشلنا جسديًا، الثاني يُشلنا ذهنيًا، الأول يجعلنا عاجزين عن الحركة، الثاني يجعلنا غير راغبين فيها، الأول يغادرنا عند اليقظة، أما الثاني فيتربص بنا عند الاستيقاظ، في العمل، في الحمام، في السرير، وحتى أثناء صلاتك يُرِنّ الهاتف، فتتساءل من المتصل؟ هل هو أمر طارئ؟ أم مجرد إشعار من تيك توك؟
والأدهى، الجاثوم الحقيقي لا يسرق منا سوى دقائق، لكن الجاثوم الرقمي يسرق أيامنا، عقلنا، رأيك، ذوقك، وحتى هويتك. يختار لك ما تحب، ما تضحك له، من تعجب به، ومن تكرهه،حزنك لا يُحسب إن لم يُوثّق، وفرحتك لا تُعاش إن لم تُشاركها مع المتابعين.
في زمنٍ صار فيه الجاثوم الرقمي أكثر وفاءً من بعض الأصدقاء، وأكثر حضورًا من أفراد العائلة، لم يعد الخلاص مسألة زر يُغلق أو جهاز يُطفأ،المسألة باتت أعمق، بعدما فقدنا القدرة على قضاء فراغنا من دونه، أو أن نملأ الصمت بحديث داخلي لا يبدأ بـمرحبًا شات جي بي تي، ولا ينتهي بمنشور سطحي عن قهوة الصباح؟
الجاثوم القديم، على قسوته، لا يطمح لأكثر من جسدك. أما الجديد فهو يطمع بروحك، بوقتك، بفكرك، بأن تجلس ساعات تحدّق في لا شيء، وتقنع نفسك أنك رأيت كل شيء،وربما الحل ليس في قطع الاتصال، بل في استعادته، لكن مع أنفسنا، وأما إن شعرت بشيء يجثم على صدرك، فتأكّد أولًا هل أنت نائم أم فقط متّصل بالواي فاي؟!