د. عوض الغباري يكتب لـ"أنا حوا"..حول مسرحية "كورونا لينا" للكاتبة سعدية العادلي


قدمت الكاتبة الأديبة سعدية العادلي كثيرا من الأعمال الإبداعية، خاصة المسرحية .
وقد تميز إنتاجها الأدبي بالنزعة التربوية، والتوجه الأخلاقي ، خاصة في مجال أدب الطفل.
والإصلاح الاجتماعي هو الغاية من كتاباتها في الأنواع الأدبية المختلفة تأكيدًا للرسالة السامية للفن الأدبي.

ومن أعمالها الجديدة موسوعة "نساء عربيات مبدعات" وهو مشروع رائد كبير يسلط الضوء على دور النساء في منظومة الأدب والفكر والفن، بدأته بالجزء الأول ، ونأمل في إصدار الأجزاء التالية.
ولسعدية العادلى رواية عنوانها : "خلف قضبان الحياة" تمزج فيها بين السردية والشاعرية ، وارتباط الذات بالأسرة والوطن. ولكاتبتنا دور متميز في المسرح المدرسي، وسيلة وغاية لتنشئة الأجيال على حب الفن والأدب والثقافة ، وارتباط ذلك بحب الوطن. وكذلك كان الهدف في قصصها ومسرحياتها التي وجهتها للأطفال، وكانت معلما بارزا في هذا المجال, وكذلك فى الإخراج المسرحى.
وسعدية العادلي تعايش أحداث المجتمع، وتضع مصر في القلب حبا وانتماء، وتستلهم من التراث المصري الأصيل ما تجدل به أدبها في أسلوب سلس عذب، وفكر فلسفي رصين.
من ذلك المسرحية الجديدة "كورونا لينا" التي ترصد من خلال آلياتها الفنية قضايا المجتمع المصري، خاصة التعليم، وقد أثارتها مصيبة "كورونا"، وهي الوباء القاتل الذي حصد حياة الآلاف من البشر، مما دعا كاتبتنا لرصد آفات التعليم ، ومشاكله وقضاياه، وأثر ذلك وغيره على اختلال قيم المجتمع المصري في تماثل مع الآثار المدمرة للكورونا.
وكما خلفت الكورونا من آلام، واستثارت الهمم لإيجاد علاج يعمل العلماء على اختراعه لإنقاذ البشر، فكذلك يعاني المجتمع المصري من آفات الجهل، ومشاكل التعليم وغياب المسئولية المجتمعية، مما يدعو إلى العمل على إصلاح ذلك من خلال العلم.
ومسرحية "كورونا لينا" للكاتبة سعدية العادلى تعالج هذه القضية بين الألم والأمل، وبين التكاسل والعمل، وبين التراخي في القيام بالواجب، والعمل بإخلاص وتفان فيما ينفع الناس ويمكث في الأرض. وتتداخل هذه المفارقات في نسيج المسرحية فمع كل فصل من الفصول الثلاثة ومشاهدها يتعاقب النور والظلام.
ويتجسد الأمل والنور في دلالة الأسماء في المسرحية فاسم الأم آمال، واسم الابنة نورة، والابن نور.
وتبدأ الفصول ومشاهدها بحرفية مسرحية متمثلة في وصف المكان، يظهر منه تعبيره عن حياة الطبقة المتوسطة، وتوجهه الأنثوى الذي يركز على تفاصيل الأثاث في المنزل الذي هو مسرح الأحداث، وهو مثال المنزل المصري التقليدي.
كما تتبين الحرفية المسرحية في الحوار الذكي بين شخصيات المسرحية، وما يعكسه حوار الشباب خاصة من ذكاء ومرح وتطلع إلى المستقبل الأفضل، والرغبة في التعليم القائم على حب التخصص، والنظر إلى الأعمال الحرفية والتعليم الفني نظرة تقدير، كالنظرة إلى الطب وغيره من العلوم.
في مطلع الفصل الأول حوار بين "نورة" وأخيها أحمد حول ميل أخيهما "نور" إلى التعليم الفني، ومعارضة الأم التي تريد أن يلتحق بكلية الطب كأخيه أحمد، ولا يخلو الحوار من روح ساخر ينساب بأسلوب يجري بسلاسة بين الفصحي والعامية:
نورة : شكل المشكلة شئ، وجوهرها شئ آخر.
أحمد: فهميني يا حلوة .. إيه جوهرها؟
نورة : نور عنده مهارات يدوية، وكلنا في حاجة إليه.
والتعبير المصري ظاهرة في المسرحية كقول الأم عن مهارة نور في إصلاح الأِشياء في البيت "إيدك تتلف في حرير" ومع ذلك تتمسك بضرورة تعليمه خارج إطار التعليم الفني تعبيرا عن تناقض المجتمع إزاء هذه القضية.
ويوضح الحوار أن قيمة الإنسان فيما يحسنه، وينجح فيه، فالطب, مثلا, علم ومهنة إنسانية، وإبداع وابتكار وتطوير، وكذلك كل علم وصناعة وفن، وكل ميسر لما خلق له.
والطابع العملي في الحياة واسع، يفسره المنطق الاجتماعي، في اتجاهه الإيجابي من الغاية التي تبرر الوسيلة، وتعود بالنفع العام على المجتمع، كما تناقشه المسرحية.
والتجريب والتنظير متداخلان ، والعمل اليدوي الحرفي مهم ولا يقل شأنا عن غيره من عمل الطبيب والمهندس وغير ذلك، فنورة , مثلا , تحب الأعمال الفنية ، ونور يحب الأعمال اليدوية ، وهما مثال على ضرورة تقدير الأسرة لميول الأبناء.
وتنير "نورة" هذا الأمر بقولها: إن شاء الله هكون دكتورة بس بطريقتي وقولها:
ياناس الموهبة نعمة من ربنا نشكره عليها، ننميها ونمارسها، هيكون الناتج إبداع ، والإبداع يعني الجمال ، وبالجمال نعيش سعداء.
وعلى ذلك لا يجب مسايرة تناقض المجتمع الذي يعلي من قدر الطبيب والمهندس، مثلا، بينما يشكو من قلة الحرفيين الذين لا يحظون بالتقدير.
ومن هنا تحدث المفارقة في اقتراض الدكتور الطبيب من ابن خالته الطالب ، كما يجري في المسرحية, فالطبيب مع قيمته العلمية قد يضطر إلى ذلك.
والفكاهة بادية بالتوازى مع الجد في المسرحية، فأحمد عندما يشرح للأم تاريخ الفلسفة البراجماتية من مائة وخمسين سنة تقريبا، تقول الأم: من زمان كده، وأنا معرفش!ّ!
وتعايش المسرحية هموم الأسرة المصرية، وتصور الحياة اليومية الواقعية، والانهماك في العمل والدراسة، خاصة في الظروف الصعبة لحظر الكورونا.
ويمثل "أنس" طالب الثانوية العامة في المسرحية مشاكل الدروس الخصوصية، واللجوء إلى مراكز الدروس الخصوصية، وإرهاق الأسرة ماديا ومعنويا.
وفي أثناء هذه المشاكل يبرز المثل المصري على لسان "الأم" مثل " تصغرها تصغر، تكبرها تكبر" ويبرز رأي الشباب أن بركة زمان انتهت، وأن القيم الثابتة لا تصلح لعالم يتغير بسرعة ، وتسيطر عليه وسائل الاتصال الحديثة.
وتبرز الحكمة في مثل قول الأب: المهم نوازن بين مبادئنا وتحقيق مصالحنا.
وينتهي الفصل الأول بأن أشياء كثيرة يجب أن تتغير، ولا بد على الإنسان أن يؤمن بقدراته، وقيمته بما يعمل , ويقدمه للمجتمع في تطوير وإبداع حقيقي.
وكذلك الأمل في التحول من مجتمع استهلاكي إلى مجتمع منتج.
والفصل الثاني هو أطول فصول المسرحية، تقدمه سعدية العادلي في ثلاثة مشاهد، يعرض الأول لحوار البطلة مع جارتها ، ممثلا لما يدور في المجتمع المصري من مشاكل وهموم حول الأسرة والأبناء والتعليم مثل تعذيب الأطفال بحمل الحقائب المدرسية الثقيلة ، وقضية "التابلت" والتعليم والامتحان عن بعد.
والجديد هنا، حوار حول الكورونا، وأثرها في حياة المصريين، خاصة حظر الحرية في الخروج إلى العمل والأسواق ودور العبادة وغير ذلك مما عبرت عنه البطلة بقولها إن زيارتها لجارتها تغيير في أنواع المشاكل والنكد، فالكل مهموم بطريقته وحالته ، أو كما قال ابن زيدون:
إن المصائب يجمعن المصابينا
ويعالج المشهد الثاني من الفصل الثاني متاعب المذاكرة من خلال مشكلة "نورة" التي تشكو من نسيان ما تذاكره لأنها لا تحبه ، وتفضل دراسة الفنون الجميلة ، ويتلخص في قولها : "نعم للثقافة والاطلاع، لا للتقليد والخضوع والانقياد".
ثم يتطرق المشهد إلى المدرس الخصوصي، وكيف يهين نفسه بهذا العمل غير التربوي، وإلى الطلاب الذين يتلقون الدرس ، ومظهرهم الغريب في أزيائهم، وترددهم على المقاهي بين الدروس، واستهتارهم بسلبياتهم، وغياب دور المجتمع في تربيتهم التربية السليمة .
وإن كان هذا المشهد يبالغ أحيانًا، في تقديم بعض المقاطع الخطابية موجهة إلى الشباب، مما قد يعوق حيوية الخط البنائي للحوار المسرحي، مع أهميتها في الالتفات إلى قيمة حضارتنا المصرية، وحث الشباب على الثقة في أنفسهم ، ووقف تقليدهم الأعمى لما لا ينفعهم.
وكذلك الأخذ بما يناسب تراثنا وهويتنا ودستورنا السماوى.
وصورة المدرس الخصوصي المهينة متمثلة في مد يده لأخذ النقود من الطالب تتنافي مع صورته
وقد أخذ يشترك في تفسير القيم والمشاعر الإنسانية التى تلزم الشباب من الطلاب ، والتي يبتعدون عنها بأزيائهم الغريبة التي لا تتوافق مع ذوق مجتمعنا كهوس الشباب بلبس البنطلونات المرقعة وغيرها!
وتعرج المسرحية إلى نقطة مهمة تفسر اضطراب الشباب، وضياع بعضهم، وهي سفر ولي الأمر ، مما يتسبب في انقلات الأمور وغياب الضوابط اللازمة للشباب الجامح الذي يحتاج إلى من يوجهه إلى الصواب، وإلى الرعاية التى تحتويه، والحنان الذي يفتقده.
ويتمثل هذا وغيره من مشاكل الشباب في طالب تزوج أبوه على أمه المتفانية في خدمته مما أثر سلبا على نفسية هذا الطالب .
ولكن هذه التفريعة – مع أثرها الحزين الذي صورته المسرحية، تفقد بعض هذا الأثر إنسانيا , لأن الذي قدمها هو المدرس الخصوصي الذي يبدو في صورة متناقضة أخرى بعيدة عن هذا الشعور الإنساني المتعاطف مع الشباب، لتجارته بتعليمهم، واستنزافه لأرزاق ذويهم.
ومع ذلك قد ينطق هذا المدرس عن التوجه الأخلاقي والتربوي للمسرحية في تعبيره عن رسالة التدريس، ومواجهة مشاكل التعليم بقوله :
"مهنتنا صعبة، وكثيرا ما تتوقف عند مشاكل في مراحل فارقة في حياة الأبناء، ولذلك أطالب دائمًا بأن تكون المناهج غير مكدسة ليعطي المعلم الفرصة لكي يربي ويتواصل مع الأسرة والطلاب".
كذلك يأتي خطاب هذا الطالب الحزين الذي سافر أبوه، وتركه والأسرة يعانون ألم فراقه , وقد قدمه هذا المدرس الخصوصي – أيضا – تفريعة أخرى في المسرحية لا تخدم بناء المسرحية، ولا تبرر تناقض هذا المدرس الخاص كما أشرنا.
وكما يقول : القناعة والرضا وتحكيم العقل قبل الإقدام على فعل يؤثر على مشاعر وحياة الآخرين، خاصة أقرب الناس له أسرته ثروته، تعب سنينه وأيامه. إذ تأتي هذه العبارات متسقة مع الهدف النبيل للمسرحية، وإن أجرتها سعدية العادلي على لسان شخصية غير مناسبة لها.
ولكن مع ذلك نجد في المسرحية استشهادا بالتراث الشعري العربي الرائع، كقول الشاعر:
ثم هذا الختام المعبر للمشهد الثاني من أنَّ مشاكل التعليم ترتبط بمشاكل الأسرة على لسان الأب الذي يصيح: يا ناس خلوا بالكم من أسركم .
ثم يأتي المشهد الثالث ختاما للفصل الثاني بتصوير الحاجة الملحة لسباك يصلح ماسورة المياه التي تدفقت مغرقة البيت، وما يتبعه من السلوك الخشن للسباك، وتعامله الفج مع زبائنه، وتضخيمه للمشكلة مع بساطتها، ودلاله السمج على من يحتاجه، وإهماله للأمانة في أداء عمله، ومغالاته في طلب المقابل لعمله الذي قد لا يتقنه.
وقد تبدو بعض المقاطع في هذا المشهد مغرية لبعض من يريد العمل بمثل هذه الحرفة للتكسب البعيد عن الإخلاص و الضمير والأمانة والشرف، ولكن المقصود , حقيقة ، ما عبر عنه هذا المقطع الحوارى : فعلا المفاضلة ليست في نوع العمل أو الوظيفة ما دامت تؤدي بضمير وإتقان وأمانة فكل عمل شريف هو أفضل الأعمال.
وكذلك توضح المسرحية ضرورة التوسع في تخصصات التعليم الفني للتغلب على مشكلة العمالة.
قد تبدو بعض مقاطع الحوار معبرة عن التقليل من شأن التعليم العالي والحصول على الدكتوراه , كما بدا في حوار "نورة" بوجه خاص، ولكن الحقيقة هي ما أكده ختام الفصل الثاني أن "الأعمال اليدوية تحول العلم والفن لواقع يستمتع به الآخرون، وينتفعون به".
والفصل الثالث بمشهديه تنويع على القضايا السابقة .
والمشهد الأول حول السباك ومطالبته بتغيير المواسير مما لا حاجة إليه، وكشفه "نور" الذي استطاع أن يصلح الماسورة , و كشف زيف هذا السباك الذي هو، أصلا , خريج كلية التجارة , وفشل في إيجاد وظيفة، فعمل بالسباكة وأصبح ، كما تقول المسرحية "سباك ومش سباك" , أو تكون النتيجة المأساوية أنه لا محاسب ناجح ولا سباك ماهر.
وينتهي المشهد الأول إلى أن العمل ليس عيبا، والمهم إتقانه.
أما المشهد الثاني فتقرير عن أثر الكورونا في إغلاق الكعبة للمرة الخامسة في التاريخ ، وبيان لظروف الإغلاق في كل مرة.
وفيه حوار للأسرة حول هذا الوباء الذي يعد عبرة وعظة ودرسا للرجوع عن المظالم الإنسانية، والعودة إلى الله، ورب ضارة نافعة فقد أخذت الأسرة تجتمع بعد تفرق.
وقد أخذ الناس يعبرون عن اشتياقهم للصلاة في المساجد، خاصة في رمضان، ويتمنون أن يحظوا بالعمرة والحج بعد زوال الغمة، وفتح بيوت الله لعُمّارها. وعودا على بدء فقد كان اختيار العنوان :
"كورونا لينا" ناطقا بهدف المسرحية التي نبهتنا إلى كثير من القيم الإنسانية ، كذلك الإهداء وعلامته على حب مصر، وتقدير دور الأطباء في مواجهة محنة الكورونا متمثلا في قول سعدية العادلى:
إليك يا مصر
إلى جيشك الأبيض
مدافعا صامدًا
صامتا مخلصاً
تحيا مصر
ولعل في الكورونا راحة إجبارية من عجلة الحياة التى تصرف الناس عن التفكر في الحق والخير والجمال، وهو الهدف من أدب سعدية العادلى في كل أعمالها الأدبية .
.
⇧
وقد تميز إنتاجها الأدبي بالنزعة التربوية، والتوجه الأخلاقي ، خاصة في مجال أدب الطفل.
والإصلاح الاجتماعي هو الغاية من كتاباتها في الأنواع الأدبية المختلفة تأكيدًا للرسالة السامية للفن الأدبي.

ومن أعمالها الجديدة موسوعة "نساء عربيات مبدعات" وهو مشروع رائد كبير يسلط الضوء على دور النساء في منظومة الأدب والفكر والفن، بدأته بالجزء الأول ، ونأمل في إصدار الأجزاء التالية.
ولسعدية العادلى رواية عنوانها : "خلف قضبان الحياة" تمزج فيها بين السردية والشاعرية ، وارتباط الذات بالأسرة والوطن. ولكاتبتنا دور متميز في المسرح المدرسي، وسيلة وغاية لتنشئة الأجيال على حب الفن والأدب والثقافة ، وارتباط ذلك بحب الوطن. وكذلك كان الهدف في قصصها ومسرحياتها التي وجهتها للأطفال، وكانت معلما بارزا في هذا المجال, وكذلك فى الإخراج المسرحى.
وسعدية العادلي تعايش أحداث المجتمع، وتضع مصر في القلب حبا وانتماء، وتستلهم من التراث المصري الأصيل ما تجدل به أدبها في أسلوب سلس عذب، وفكر فلسفي رصين.
من ذلك المسرحية الجديدة "كورونا لينا" التي ترصد من خلال آلياتها الفنية قضايا المجتمع المصري، خاصة التعليم، وقد أثارتها مصيبة "كورونا"، وهي الوباء القاتل الذي حصد حياة الآلاف من البشر، مما دعا كاتبتنا لرصد آفات التعليم ، ومشاكله وقضاياه، وأثر ذلك وغيره على اختلال قيم المجتمع المصري في تماثل مع الآثار المدمرة للكورونا.
وكما خلفت الكورونا من آلام، واستثارت الهمم لإيجاد علاج يعمل العلماء على اختراعه لإنقاذ البشر، فكذلك يعاني المجتمع المصري من آفات الجهل، ومشاكل التعليم وغياب المسئولية المجتمعية، مما يدعو إلى العمل على إصلاح ذلك من خلال العلم.
ومسرحية "كورونا لينا" للكاتبة سعدية العادلى تعالج هذه القضية بين الألم والأمل، وبين التكاسل والعمل، وبين التراخي في القيام بالواجب، والعمل بإخلاص وتفان فيما ينفع الناس ويمكث في الأرض. وتتداخل هذه المفارقات في نسيج المسرحية فمع كل فصل من الفصول الثلاثة ومشاهدها يتعاقب النور والظلام.
ويتجسد الأمل والنور في دلالة الأسماء في المسرحية فاسم الأم آمال، واسم الابنة نورة، والابن نور.
وتبدأ الفصول ومشاهدها بحرفية مسرحية متمثلة في وصف المكان، يظهر منه تعبيره عن حياة الطبقة المتوسطة، وتوجهه الأنثوى الذي يركز على تفاصيل الأثاث في المنزل الذي هو مسرح الأحداث، وهو مثال المنزل المصري التقليدي.
كما تتبين الحرفية المسرحية في الحوار الذكي بين شخصيات المسرحية، وما يعكسه حوار الشباب خاصة من ذكاء ومرح وتطلع إلى المستقبل الأفضل، والرغبة في التعليم القائم على حب التخصص، والنظر إلى الأعمال الحرفية والتعليم الفني نظرة تقدير، كالنظرة إلى الطب وغيره من العلوم.
في مطلع الفصل الأول حوار بين "نورة" وأخيها أحمد حول ميل أخيهما "نور" إلى التعليم الفني، ومعارضة الأم التي تريد أن يلتحق بكلية الطب كأخيه أحمد، ولا يخلو الحوار من روح ساخر ينساب بأسلوب يجري بسلاسة بين الفصحي والعامية:
نورة : شكل المشكلة شئ، وجوهرها شئ آخر.
أحمد: فهميني يا حلوة .. إيه جوهرها؟
نورة : نور عنده مهارات يدوية، وكلنا في حاجة إليه.
والتعبير المصري ظاهرة في المسرحية كقول الأم عن مهارة نور في إصلاح الأِشياء في البيت "إيدك تتلف في حرير" ومع ذلك تتمسك بضرورة تعليمه خارج إطار التعليم الفني تعبيرا عن تناقض المجتمع إزاء هذه القضية.
ويوضح الحوار أن قيمة الإنسان فيما يحسنه، وينجح فيه، فالطب, مثلا, علم ومهنة إنسانية، وإبداع وابتكار وتطوير، وكذلك كل علم وصناعة وفن، وكل ميسر لما خلق له.
والطابع العملي في الحياة واسع، يفسره المنطق الاجتماعي، في اتجاهه الإيجابي من الغاية التي تبرر الوسيلة، وتعود بالنفع العام على المجتمع، كما تناقشه المسرحية.
والتجريب والتنظير متداخلان ، والعمل اليدوي الحرفي مهم ولا يقل شأنا عن غيره من عمل الطبيب والمهندس وغير ذلك، فنورة , مثلا , تحب الأعمال الفنية ، ونور يحب الأعمال اليدوية ، وهما مثال على ضرورة تقدير الأسرة لميول الأبناء.
وتنير "نورة" هذا الأمر بقولها: إن شاء الله هكون دكتورة بس بطريقتي وقولها:
ياناس الموهبة نعمة من ربنا نشكره عليها، ننميها ونمارسها، هيكون الناتج إبداع ، والإبداع يعني الجمال ، وبالجمال نعيش سعداء.
وعلى ذلك لا يجب مسايرة تناقض المجتمع الذي يعلي من قدر الطبيب والمهندس، مثلا، بينما يشكو من قلة الحرفيين الذين لا يحظون بالتقدير.
ومن هنا تحدث المفارقة في اقتراض الدكتور الطبيب من ابن خالته الطالب ، كما يجري في المسرحية, فالطبيب مع قيمته العلمية قد يضطر إلى ذلك.
والفكاهة بادية بالتوازى مع الجد في المسرحية، فأحمد عندما يشرح للأم تاريخ الفلسفة البراجماتية من مائة وخمسين سنة تقريبا، تقول الأم: من زمان كده، وأنا معرفش!ّ!
وتعايش المسرحية هموم الأسرة المصرية، وتصور الحياة اليومية الواقعية، والانهماك في العمل والدراسة، خاصة في الظروف الصعبة لحظر الكورونا.
ويمثل "أنس" طالب الثانوية العامة في المسرحية مشاكل الدروس الخصوصية، واللجوء إلى مراكز الدروس الخصوصية، وإرهاق الأسرة ماديا ومعنويا.
وفي أثناء هذه المشاكل يبرز المثل المصري على لسان "الأم" مثل " تصغرها تصغر، تكبرها تكبر" ويبرز رأي الشباب أن بركة زمان انتهت، وأن القيم الثابتة لا تصلح لعالم يتغير بسرعة ، وتسيطر عليه وسائل الاتصال الحديثة.
وتبرز الحكمة في مثل قول الأب: المهم نوازن بين مبادئنا وتحقيق مصالحنا.
وينتهي الفصل الأول بأن أشياء كثيرة يجب أن تتغير، ولا بد على الإنسان أن يؤمن بقدراته، وقيمته بما يعمل , ويقدمه للمجتمع في تطوير وإبداع حقيقي.
وكذلك الأمل في التحول من مجتمع استهلاكي إلى مجتمع منتج.
والفصل الثاني هو أطول فصول المسرحية، تقدمه سعدية العادلي في ثلاثة مشاهد، يعرض الأول لحوار البطلة مع جارتها ، ممثلا لما يدور في المجتمع المصري من مشاكل وهموم حول الأسرة والأبناء والتعليم مثل تعذيب الأطفال بحمل الحقائب المدرسية الثقيلة ، وقضية "التابلت" والتعليم والامتحان عن بعد.
والجديد هنا، حوار حول الكورونا، وأثرها في حياة المصريين، خاصة حظر الحرية في الخروج إلى العمل والأسواق ودور العبادة وغير ذلك مما عبرت عنه البطلة بقولها إن زيارتها لجارتها تغيير في أنواع المشاكل والنكد، فالكل مهموم بطريقته وحالته ، أو كما قال ابن زيدون:
إن المصائب يجمعن المصابينا
ويعالج المشهد الثاني من الفصل الثاني متاعب المذاكرة من خلال مشكلة "نورة" التي تشكو من نسيان ما تذاكره لأنها لا تحبه ، وتفضل دراسة الفنون الجميلة ، ويتلخص في قولها : "نعم للثقافة والاطلاع، لا للتقليد والخضوع والانقياد".
ثم يتطرق المشهد إلى المدرس الخصوصي، وكيف يهين نفسه بهذا العمل غير التربوي، وإلى الطلاب الذين يتلقون الدرس ، ومظهرهم الغريب في أزيائهم، وترددهم على المقاهي بين الدروس، واستهتارهم بسلبياتهم، وغياب دور المجتمع في تربيتهم التربية السليمة .
وإن كان هذا المشهد يبالغ أحيانًا، في تقديم بعض المقاطع الخطابية موجهة إلى الشباب، مما قد يعوق حيوية الخط البنائي للحوار المسرحي، مع أهميتها في الالتفات إلى قيمة حضارتنا المصرية، وحث الشباب على الثقة في أنفسهم ، ووقف تقليدهم الأعمى لما لا ينفعهم.
وكذلك الأخذ بما يناسب تراثنا وهويتنا ودستورنا السماوى.
وصورة المدرس الخصوصي المهينة متمثلة في مد يده لأخذ النقود من الطالب تتنافي مع صورته
وقد أخذ يشترك في تفسير القيم والمشاعر الإنسانية التى تلزم الشباب من الطلاب ، والتي يبتعدون عنها بأزيائهم الغريبة التي لا تتوافق مع ذوق مجتمعنا كهوس الشباب بلبس البنطلونات المرقعة وغيرها!
وتعرج المسرحية إلى نقطة مهمة تفسر اضطراب الشباب، وضياع بعضهم، وهي سفر ولي الأمر ، مما يتسبب في انقلات الأمور وغياب الضوابط اللازمة للشباب الجامح الذي يحتاج إلى من يوجهه إلى الصواب، وإلى الرعاية التى تحتويه، والحنان الذي يفتقده.
ويتمثل هذا وغيره من مشاكل الشباب في طالب تزوج أبوه على أمه المتفانية في خدمته مما أثر سلبا على نفسية هذا الطالب .
ولكن هذه التفريعة – مع أثرها الحزين الذي صورته المسرحية، تفقد بعض هذا الأثر إنسانيا , لأن الذي قدمها هو المدرس الخصوصي الذي يبدو في صورة متناقضة أخرى بعيدة عن هذا الشعور الإنساني المتعاطف مع الشباب، لتجارته بتعليمهم، واستنزافه لأرزاق ذويهم.
ومع ذلك قد ينطق هذا المدرس عن التوجه الأخلاقي والتربوي للمسرحية في تعبيره عن رسالة التدريس، ومواجهة مشاكل التعليم بقوله :
"مهنتنا صعبة، وكثيرا ما تتوقف عند مشاكل في مراحل فارقة في حياة الأبناء، ولذلك أطالب دائمًا بأن تكون المناهج غير مكدسة ليعطي المعلم الفرصة لكي يربي ويتواصل مع الأسرة والطلاب".
كذلك يأتي خطاب هذا الطالب الحزين الذي سافر أبوه، وتركه والأسرة يعانون ألم فراقه , وقد قدمه هذا المدرس الخصوصي – أيضا – تفريعة أخرى في المسرحية لا تخدم بناء المسرحية، ولا تبرر تناقض هذا المدرس الخاص كما أشرنا.
وكما يقول : القناعة والرضا وتحكيم العقل قبل الإقدام على فعل يؤثر على مشاعر وحياة الآخرين، خاصة أقرب الناس له أسرته ثروته، تعب سنينه وأيامه. إذ تأتي هذه العبارات متسقة مع الهدف النبيل للمسرحية، وإن أجرتها سعدية العادلي على لسان شخصية غير مناسبة لها.
ولكن مع ذلك نجد في المسرحية استشهادا بالتراث الشعري العربي الرائع، كقول الشاعر:
لكل شئ إذا ما تم نقصان | فلا يغر بطيب العيش إنسان |
ثم هذا الختام المعبر للمشهد الثاني من أنَّ مشاكل التعليم ترتبط بمشاكل الأسرة على لسان الأب الذي يصيح: يا ناس خلوا بالكم من أسركم .
ثم يأتي المشهد الثالث ختاما للفصل الثاني بتصوير الحاجة الملحة لسباك يصلح ماسورة المياه التي تدفقت مغرقة البيت، وما يتبعه من السلوك الخشن للسباك، وتعامله الفج مع زبائنه، وتضخيمه للمشكلة مع بساطتها، ودلاله السمج على من يحتاجه، وإهماله للأمانة في أداء عمله، ومغالاته في طلب المقابل لعمله الذي قد لا يتقنه.
وقد تبدو بعض المقاطع في هذا المشهد مغرية لبعض من يريد العمل بمثل هذه الحرفة للتكسب البعيد عن الإخلاص و الضمير والأمانة والشرف، ولكن المقصود , حقيقة ، ما عبر عنه هذا المقطع الحوارى : فعلا المفاضلة ليست في نوع العمل أو الوظيفة ما دامت تؤدي بضمير وإتقان وأمانة فكل عمل شريف هو أفضل الأعمال.
وكذلك توضح المسرحية ضرورة التوسع في تخصصات التعليم الفني للتغلب على مشكلة العمالة.
قد تبدو بعض مقاطع الحوار معبرة عن التقليل من شأن التعليم العالي والحصول على الدكتوراه , كما بدا في حوار "نورة" بوجه خاص، ولكن الحقيقة هي ما أكده ختام الفصل الثاني أن "الأعمال اليدوية تحول العلم والفن لواقع يستمتع به الآخرون، وينتفعون به".
والفصل الثالث بمشهديه تنويع على القضايا السابقة .
والمشهد الأول حول السباك ومطالبته بتغيير المواسير مما لا حاجة إليه، وكشفه "نور" الذي استطاع أن يصلح الماسورة , و كشف زيف هذا السباك الذي هو، أصلا , خريج كلية التجارة , وفشل في إيجاد وظيفة، فعمل بالسباكة وأصبح ، كما تقول المسرحية "سباك ومش سباك" , أو تكون النتيجة المأساوية أنه لا محاسب ناجح ولا سباك ماهر.
وينتهي المشهد الأول إلى أن العمل ليس عيبا، والمهم إتقانه.
أما المشهد الثاني فتقرير عن أثر الكورونا في إغلاق الكعبة للمرة الخامسة في التاريخ ، وبيان لظروف الإغلاق في كل مرة.
وفيه حوار للأسرة حول هذا الوباء الذي يعد عبرة وعظة ودرسا للرجوع عن المظالم الإنسانية، والعودة إلى الله، ورب ضارة نافعة فقد أخذت الأسرة تجتمع بعد تفرق.
وقد أخذ الناس يعبرون عن اشتياقهم للصلاة في المساجد، خاصة في رمضان، ويتمنون أن يحظوا بالعمرة والحج بعد زوال الغمة، وفتح بيوت الله لعُمّارها. وعودا على بدء فقد كان اختيار العنوان :
"كورونا لينا" ناطقا بهدف المسرحية التي نبهتنا إلى كثير من القيم الإنسانية ، كذلك الإهداء وعلامته على حب مصر، وتقدير دور الأطباء في مواجهة محنة الكورونا متمثلا في قول سعدية العادلى:
إليك يا مصر
إلى جيشك الأبيض
مدافعا صامدًا
صامتا مخلصاً
تحيا مصر
ولعل في الكورونا راحة إجبارية من عجلة الحياة التى تصرف الناس عن التفكر في الحق والخير والجمال، وهو الهدف من أدب سعدية العادلى في كل أعمالها الأدبية .
.