عبدالله السلايمة يكتب: أزمة المعلّم… أزمة وطن
لم تعد قضية المعلّم في مصر مجرد مطلب فئوي أو نقاشًا مهنيًا يمكن تجاهله، بل أصبحت مرآة تكشف عجز الدولة عن تقدير أهم موظفيها وأكثرهم تأثيرًا في مستقبلها. فالمعلّم، الذي يفترض أن يكون في مقدمة أولويات أي دولة تسعى للنهوض، أصبح في مصر آخر من يُنظر في شأنه، وآخر من تلتفت إليه الحكومة حين تتحدّث عن العدالة الاجتماعية أو الإصلاح.
السؤال الذي يتردد اليوم بين الناس - بمرارة شديدة - هو: كيف يحصل موظف في مصلحة الكهرباء أو التأمينات الاجتماعية أو الضرائب على راتب يماثل ضعف راتب المعلّم، بينما يحصل عند بلوغه سنّ التقاعد على معاش ومكافأة نهاية خدمة تزيد ثلاثة أضعاف ما يتقاضاه المعلّم؟ كيف تُهمل الدولة مَن يصنع الطبيب والمهندس والقاضي، وتغدق الامتيازات على قطاعات أخرى لا تملك ذات التأثير العميق في بناء الإنسان؟
هذا التفاوت ليس خللًا إداريًا عابرًا، بل إدانة صريحة لإهمال الدولة لقطاع التعليم. والمقارنة العالمية تكشف حجم تقصيرها بوضوح؛ فاليابان - النموذج الأكثر نهوضًا - جعلت أعلى رواتب موظفيها للمعلمين، إدراكًا منها بأنّ النهضة تبدأ بتقدير المعلّم. بينما في مصر، يُعامل المعلّم باعتباره عبئًا ماليًا، لا استثمارًا في المستقبل. تُطالب الدولة بالتطوير، وتطلب من المدارس تقديم تعليم ينافس عالميًا، بينما تمنح الحد الأدنى من الرواتب والحقوق لمن يُفترض أن يحمل مشروع النهضة على كتفيه.
وتزداد المأساة قسوة عند وصول المعلّم إلى سنّ التقاعد. معاش هزيل لا يليق بسنوات الخدمة، مكافآت لا تعبر عن عمر أُنفق في فصول غالبًا بلا إمكانيات، وقرارات حكومية تُعمّق الجرح بإعلانها مؤخرًا زيادات "مؤجلة" لفئات محددة، كما في العبارة الرسمية الشهيرة: «تُصرف الزيادة للمحالّين إلى التقاعد اعتبارًا من بداية ٢٠٢٦. هل يُعقل أن تُمنح فئة مستقبلية كامل حقوقها بينما يُترك من تقاعدوا قبل ذلك التاريخ يواجهون الغلاء والمرض والاحتياج وحدهم؟ بأي منطق تُحدَّد الحقوق تبعًا للتاريخ لا للعطاء؟ وكيف تقبل الدولة أن يعاني آلاف المعلّمين المتقاعدين من ضيق الحال بعد أن حملوا على أكتافهم منظومة التعليم لعقود طويلة؟
هذا الظلم ليس تفصيلًا صغيرًا في نظام كبير، بل هو جوهر أزمة التعليم في مصر. فلا يمكن أن تنهض منظومة يقوم عليها معلّم مهموم بمعيشته، مُثقل بديونه، قَلِق على مستقبله، ومهدد بأن يعيش بعد التقاعد حياة لا تليق بكرامته. إنّ إهمال المعلّم - على رأس العمل أو بعد التقاعد - ليس مجرد خطأ إداري، بل خطيئة وطنية. خطيئة تدفع ثمنها الأجيال، ويدفع ثمنها مستقبل بلد كامل.
الدولة مسؤولة عن هذا التدهور. مسؤولة عن الرواتب الهزيلة، وعن المعاشات غير الكافية، وعن التمييز بين المتقاعدين وفق تاريخ التقاعد لا وفق سنوات الوفاء. مسؤولة عن أنها تركت المعلّم في آخر الصف، ثم طالبت منه أن يكون أول من ينهض بالوطن. مسؤولة عن أنها لم تدرك بعد أن التعليم ليس قطاعًا خدميًا، بل قضية أمن قومي، وأنّ المعلّم ليس مجرد موظف، بل هو الذي يصنع المواطن والوعي والمعرفة.
وإذا كانت الدولة جادة في تطوير التعليم، فإن البداية ليست في المناهج ولا في الأبنية ولا في التكنولوجيا، بل في إعادة الاعتبار للمعلّم. رفع رواتب المعلمين، مساواة المتقاعدين دون تمييز، إعادة النظر في مكافأة نهاية الخدمة، وتوفير حياة كريمة بعد التقاعد، ليست رفاهية ولا مطالب فئوية، بل ضرورة وجودية لنهضة أي مجتمع يحترم نفسه.
أزمة المعلّم هي أزمة وطن. ولا يمكن للوطن أن ينتظر مستقبلًا مشرقًا ما دام يعامل صُنّاع المستقبل بهذه القسوة وهذا التجاهل. ولا يمكن للأجيال أن تتعلّم في ظل دولة لا تحترم من يعلّمهم.
إنّ إنقاذ التعليم يبدأ من كرامة المعلّم، وإحياء المدرسة يبدأ من إنصافه، وتقدّم مصر يبدأ من لحظة تعترف فيها الدولة بأن المعلّم هو أول من يجب أن تُنصفه، لا آخر من يهمها أمره.







