مروة نايل تكتب: الذوق ما خرجش من مصر... فأين هو؟


في أزقة القاهرة القديمة، حُفرت حكاية الشيخ حسن الذوق، الرجل الذي لم يكن يحمل اسمه مصادفة، بل كان عنوانًا لأسلوب حياة بأكملها. لم يكن الذوق آنذاك مجرد سلوك مهذب أو ترفًا خُلقيًا، بل كان قاعدة صلبة تُبنى عليها العلاقات، تتشكل بها الكلمات، وتُنظم بها تفاصيل المأكل والملبس والمعاملة.
الشيخ حسن الذوق، الذي جاء من المغرب ليستوطن في مصر، وكان تاجرًا وفَتوة، جمع بين الحزم والرِّفق، وبين الفتونة والرقي في التعامل. لم يكن يغضب في وجه محتاج، ولم يرفع صوته في الأسواق إلا لإحقاق الحق. وكان يحسم الخلاف لا بالسيف، بل بالكلمة الطيبة والاتزان. تخيَّل فتوة اليوم يفصل بين خصمين بالكلمة الطيبة! الأغلب حيمسك الموبايل ويبث لايف بعنوان: "أول خناقة في تاريخ الذوق."
هكذا كان الذوق مكوِّنًا من مكوِّنات الشخصية، حتى لدى من عاشوا في أشد طبقات المجتمع بساطةً أو خشونةً أو بؤسًا. الشيخ حسن، الذي جمع بين فتوة الحي ورقّة القلب، كان إذا دخل السوق اختفت الفوضى، واستقامت الأسعار. لا يرفع صوته إلا إذا انخفضت الأخلاق، ولا يمد يده إلا لتقديم الخير أو نصرة المظلوم.
لم يكن الرجل أنيقًا لأنه غني، بل لأن الذوق عنده كان في الطبع والنية والنبرة، لا في ربطة العنق. ربطة العنق اليوم أهم من النبرة، وتكاد تكون أكثر تأثيرًا من النية، خاصة لو كانت "ماركة" ومعها شنطة من نفس اللون.
في الماضي، كنت تدخل بيتًا متواضعًا، فتُقابل بكوب ماء يُقدَّم لك بيدين نظيفتين وابتسامة صافية. تجلس مع عامل بسيط، فتجد في حديثه ترتيبًا، وفي نبرة صوته احترامًا. كان الناس، على اختلاف طبقاتهم، يحرصون على أناقة في اللفظ، في الملبس، وفي طريقة تقديم الطعام.
كان الذوق نغمة مشتركة في لحن الحياة اليومية. الناس يعتذرون إذا أخطأوا، لا يبررون. وكان الاعتذار لا يحتاج إلى بوست ممول أو بانر معلّق لزوم التريند، أو إلى PDF موثّق، بل يكفي أن تقول "حقك عليّ" بصدق وندم، وينتهي الموضوع. أما الآن، فلو غلطت في حد، لازم تعمله "تاج" في بوست مكتوب عليه "أنا آسف يا صاحبي"، مع "ريلز" بـ "بحبك يا صاحبي برضه"، ومعاه شوية صور من ذكرياتكم... طبعًا بعد فلترة المشاعر.
أما اليوم، فيبدو أن هذا الذوق يتوارى شيئًا فشيئًا تحت ركام السرعة والتسرّع، والسطحية، والتصنّع. أصبح النقاش مع الآخر ساحة صراع، لا مساحة تفاهم. الملابس تصرخ بألوانها وتصاميمها، لا لتعكس شخصية، بل لتلفت الانتباه بأي وسيلة. حتى الطعام، لم يعد يُقدَّم بروح الكرم، بل بروح الاستعراض. طبق الفول ممكن يتقدَّم في طبق صيني بتوقيع نابليون اللي ساب الحروب والحملات واحتل المطبقيّة... لكن وانت بتاكله، تكتشف إنه "فول بايت"، بس أهم حاجة الصورة طلعت حلوة.
نعيش في عصر تُربَّى فيه الحيوانات الأليفة والمتوحشة أكثر من الذوق. النقاش صار معركة، والاختلاف صار سبًّا علنيًّا، والمجاملة تحوّلت إلى تصنّع ونفاق مجتمعي فج. حتى الابتسامة، أصبحت مشروطة بعدد الفلاتر، واللي ما بيضحكش في الصور يتّهموه بالاكتئاب، أو يقولوا عليه "تو إيديتيد".
تطلب كوب شاي، فيأتيك في كوب زجاجي فخم... لكن بلا مودة، وفي انتظار "المعلوم". الذوق الآن لا يُمارَس، بل يُستعرَض على "تيك توك"، وكوب الشاي ممكن يدخل التريند، لكن مشاعرك وانت بتشربه تخرج "أوت أوف سين".
ما الذي حدث؟ هل هو تغيّر الزمن؟ أم نحن الذين فقدنا الإحساس؟ هل الحياة أصبحت أسرع من أن ننتبه فيها لنبرة الصوت أو شكل السلام؟ أم أن الذوق تحوَّل إلى موضة قديمة، مثل التليفونات الأرضية وأغاني عبد الوهاب؟ الذوق يبدو كأنه دخل المخزن مع الكاسيت والفيشار والجاكيت الجينز والبنطلون الباجي.
لكن، لا ينبغي أن نكتفي بالرثاء. الذوق يا سادة لا يُدرَّس في المدارس، بل يُربَّى على طاولة الطعام، في أول خلاف، في طريقة ردنا على من يخطئ بحقنا، في تعبير الوجه قبل اللغة. إن الذوق ليس كماليات، بل ضرورة لا تُقاس بمستوى الدخل أو طبيعة العمل، بل تُقاس بعمق الوعي وثقافة الاحترام. يعني ممكن حد يكون معاه أحدث موبايل، بس مش عارف يقول "شكرًا" من غير ما يحس إنه بيهين نفسه.
إننا بحاجة لإحياء ما كان يملكه حسن الذوق، لا كشخص، بل كرمز. الذي حين تُوفّي دُفن في مصر، لذلك قال عنه المصريون: "الذوق ما خرجش من مصر."
نحتاج أن نعيد الذوق إلى حديثنا، إلى تفاصيل حياتنا، إلى طرق خلافاتنا قبل اتفاقاتنا.
فالذوق ليس ترفًا ضاع، بل قِوام إنساني إذا غاب، ضاعت معه أشياء كثيرة، أولها الاحترام، وآخرها السلام.
الذوق يا سادة لا يُدرّس، بل يُربَّى.
فلنعد إليه، قبل أن يصبح مجرد قصة تُحكى عن رجل اسمه "الذوق"، وتتحول حكايته إلى مسلسل تاريخي يُعرض في رمضان بعنوان: "الذوق... كان يا ما كان."
ورغم ذلك، ما زلنا نتساءل:
هل الذوق ما زال موجودًا... لكنه عامل "ميُوت" للمجتمع كله؟
أم أنه ما زال يحاول تسجيل دخول؟