د. منى نوال حلمي تكتب.. لا حرية شخصية للزي الديني في دولة مدنية


كيف مصر، دولة "مدنية"، ومع ذلك، أغلب فتيات ونساء مصر، ومنهن أطفال ورضيعات، لا يرتدين أزياء مدنية، ولكن ما يسمونه" الزى الشرعى الاسلامى " ؟؟ . بل يزددن اصرارا عليه ، بسعادة ، وزهو ، تحت مسميات " حرية شخصية " ، لا يعوق التفتح العقلى ، ولا يتعارض مع الموروثات الذكورية ؟؟. والبقية التى لم تتحجب ، تنتظر قدوم شهر رمضان ، أو عندما يشاء الله أن يهديها ، حتى تنضم الى أخواتها ؟؟. ألا يشكل هذا تناقضا صارخا ، جوهريا ، واضحا وضوح الشمس ، مع جوهر الدولة المدنية ؟؟.
سأسرد حقائق تاريخية ، لمنْ يريد فهم أصل الأشياء وجوهرها .
أولا ، الحجاب ليس له علاقة بالاسلام ، والآية القرآنية ، أو الحديث ، الذى شرع تغطية رأس المرأة ، جاءت لمنع تحرش الذكور المسلمين ، بالنساء المسلمات ، حين يخرجن من خيمهن ليلا ، لقضاء الحاجة ، أو لأمر آخر . ارتداء حجاب الرأس ، كان للحرائر فقط ، حتى يسلمن من فسق الذكور ، أما الجوارى ، فلا حجاب لهن ، لأنهن بلا كرامة ، وتحرش الذكور بهن طبيعى ، وليس قضية . لكن الآن ، وبعد انتهاء زمن الرق ، وتاريخ السكن فى خيام الصحراء ، ينتفى سبب تغطية الرأس للمرأة.
ثانيًا، الحجاب الحديث والمعاصر ، هو رمز سياسى ، لجماعة" الاخوان المسلمين " ، المؤسسة فى مصر عام 1928 ، على يد أحد الشيوخ ، وهو حسن البنا ، وبفلوس الاحتلال الانجليزى . عندما أيقن الانجليز أن وحدة وتماسك وارتباط ، الشعب المصرى ، قوة كبيرة ، أكبر من محاولات التقسيم والتفكيك والتفتيت ، لجأ الى سياسة " فرق تسد " ، على أساس الدين والطائفة والمذهب . واذا تقاتل الشعب على الدين ، فلن يجد الوقت ، أو الطاقة، أو الوعى، لمحاربة العدو الأساسى المشترك ، وهو المحتل المستعمر . وهذه سياسة قديمة معروفة تاريخيا ، وتستخدم فى كل مكان ، وحتى اليوم.
ثالثًا، استفحلت الدعاية الدينية للحجاب ، مع منتصف سبعينيات القرن الماضى ، حين خرج المتأسلمون من الجحور ، ومن الكمون ،ودشنوا آلاف التنظيمات الدينية المتطرفة ، اخوانية وسلفية صحراوية ،انتشرت بالتمويلات الجاهزة المدخرة معهم تحت الأرض ، تحمل السلاح ، يعاودها بالقتل ، والذبح ، حلم الخلافة الاسلامية ، واقامة دويلات اسلامية، وولايات اسلامية ، تكفن النساء وهن أحياء ، متحالفة مع أعداء الشعوب، ومحتلى الأرض ، ولصوص الموارد ، وسماسرة الأوطان، والقتلة المستثمرين فى السلاح ، والبغاء ، والمخدرات ، وسرقة الأعضاء من الكبار والصغار.
اختلطت الدعاية الدينية بالدعاية الثقافية والاعلامية ، من اعلاميات واعلاميين ، لا يهمها الدين ولا الأخلاق ولا الدولة المدنية.
نجحت الدعاية ، وغسل العقول من العقل والمنطق ، وتحقق المطلوب من النساء اللائى وُلدن على ذمة الاسلام.
انتصر الدين فى معركة الزى الاسلامى ، و " تحجبت " فتيات ونساء مصر المسلمات ، من جميع الطبقات والأعمار والوظائف ، والأيديلوجيات . وامتد الانتصار الى فتيات فى سن الرابعة من العمر، وفنانات بادرن بالتحجب ، واعتزال الفن ، ترسيخا لهذا الوضع، وبلاد معروفة بالاسم ، دفعت المليارات وجندت حشود ، من أهل الفكر والثقافة ، لتدعيم الحجاب ، واللغة الدينية ، واشعال الفتنة الدينية ، حتى وصلنا الى ارهاب سفك الدماء العلنى ، وتحولت مصر، الى شكل مقزز غريب مستورد ، من التعصب والتطرف والأسلمة الشكلية القاتمة المتجهمة ، التى تحرم الفنون، وتدعو الى تدمير تماثيل الحضارة المصرية القديمة، وتحريم الفن والموسيقى، والفرح، وتهدر دم أصحاب الفكروالابداع، الكاشفين للمؤامرة على قتل الدولة المدنية.
عرفنا الفتاوى المريضة بنكاح النساء، الأحياء والأموات، ونكاح الأطفال والرضيعات، وفتاوى ارضاع الكبير، وتبرير التحرش الذكورى، والاغتصاب، والتربص بعمل المرأة خارج البيت ، وترويج شرعية كراهية الأقباط وتجنبهم ، وتحريم عمليات زراعة الأعضاء ، ورفض تجريم الختان ، وتزويج البنات فور بلوغهن ،وتكاثرت الجوامع والمساجد بالميكرفونات لنشر التعصب ، واهانة النساء السافرات ، والترويج للعلاج بشرب بول الابل ، وانتشرت الشعوذة والدجل الدينى ، ولبس المايوهات الشرعية ، ولعيب الكورة يسجد على الأرض بعد احراز الهدف ، وقد أطلق ذقنه ، مرتديا الشورت الرياضى الشرعى ، وظهر المفكر الاسلامى ، والكاتبة الاسلامية ، والداعية الاسلامية ، والمدارس والحضانات والمستشفيات الاسلامية ، والبنوك الاسلامية، والجلاليب الاسلامية، والذقون الطويلة، والخناقات الاسلامية ، والأغانى الاسلامية، والدراما التليفزيونية الممولة من الخليخ ، تمدح تعدد الزوجات، وتحجيب النساء، وعدم عمل المرأة ، وسعادة النساء بأنهن ربع زوجات على ذمة رجل واحد ، ورأينا الناس يقرأون بصوت مرتفع القرآن فى المترو والأتوبيسات ، وتزدهر قضايا الحسبة الاسلامية ، وازدراء الأديان ، وانكار المعلوم من الدين بالضرورة ، والاساءة الى الذات الذات الالهية العليا والرسل والأنبياء ، وجر الروايات والمسرحيات والقصائد الى المحاكم ، ولصق ملصقات دينية اسلامية على زجاج السيارات الخلفى ، والشباب يشترطون قبل الزواج أن تكون المرأة محجبة ، مطيعة ، مختنة ، قابعة فى البيت.
عاصرنا تجريم الجهر بالافطار فى نهار رمضان ، وشاهدنا كيف يترك الناس أشغالهم ، يغلقون محلاتهم ، ويسدون الشوارع ، حينما يأتى وقت الصلاة ، واستخدام الخواتم الفضية للرجال بدلا من الذهبية ، ليكونوا أكثر اسلاما ، وتحية صباح الخير ، ومساء الخير ، فى التلفونات ، استبدلت بالسلام عليكم ، وأسماء المحلات أخذت أسماء اسلامية ، وعمل أفراح فى الشوارع بنقر الدفوف ، وكتابة تهديدات على حيطان الشوارع تقول :
" صلى قبل أن يُصلى عليكى " ، " تحجبى قبل أن يختلى بك الثعبان الأقرع فى القبر " ،
" جمالك فى نور حجابك لا غيره يغفر آثامك " ، وتعاملوا مع المجتمع المصرى ، على أنه
" دار كفار " ، وهم يقومون بمهمة جليلة ، اعادة الاسلام لشعبها ، وأراضيها .
وغيره كثير ، مما حول المجتمع المصرى ، الى بؤرة كبيرة دينية ارهابية ، متشنجة ، كارهة للحرية ، مشغولة بتكفير بعضها البعض ، ومعاداة كل أسباب التقدم الحضارى ، وأصبح المجتمع يقوم ولا يقعد ، ليس بسبب قنابل تطلق على سكان عزل فى أرضهم ، ولكن عشان حتة ذراع مكشوف من المرأة ، وشوية شَعر يظهروا من رأس طفلة .
فى ظل هذا المناخ ، هل يكون الحجاب " حرية شخصية " للمرأة ؟؟؟؟.
بل هل تكون حرية العقيدة أصلا ، وحرية تغيير الدين ، متروكة ومكفولة من المجتمع والدولة والمزاج الشعبى العام ؟؟.
كل هذا ، لكى تخضع مصر ، سياسيا ، وثقافيا ، واجتماعيا ، للقوى المتحالفة داخليا ، وخارجيا ، وتنطفئ شعلتها الريادية ، القائدة ، فى منطقتها ، لتحل محلها ريادات أخرى ، لها أهداف سياسية ودينية .
المعروف تاريخيا ، أن تحجيب أى مجتمع ، يبدأ بتحجيب النساء ، والفتن الدينية ، تبدأ بالتمييز على أساس الزى .
رابعا ، الحجاب قائم على صورة ذهنية ، وعقلية ، أن الرجال ذئاب جنسية شهوانية ، تتحرك بغرائز النصف الأسفل من أجسامهم ، وهى غرائز حاضرة طول الوقت ، مكبوتة طول الوقت ، لا يمكن التحكم فيها ، ولا يمكن تهذيبها ، وتأديبها واصلاحها بالتربية الصحية ، والقواعد الأخلاقية الحسنة ، أو بزرع احترام الفتيات والنساء . وأن هذه الغرائز تترك كل شئ فى الحياة ، وتثار فورا ، دون تعقل ، برؤية أى جزء غير مغطى من دلائل طبيعة المرأة . وعند الاثارة ، تحدث التهلكة الكبرى ،وما لا يحمد عقباه . والوضع الأمثل أن تتغطى كلها ، لأنها " الشيطان " يتحرك على قدمين.
ولكن اذا تعذر هذا ، فعلى الأقل ، وحتى تقام الخلافة ، لابد أن تغطى شعرها ، وتخفيه تماما ، وتبعد فتنته الشريرة الشيطانية ، عن الذكور دائمى الهياج . أهذه صورة أخلاقية متحضرة راقية ، للمرأة ، والرجل ؟؟.
الرجل " المتربى " ، لا يمشى فى الشوارع ، بحثا عن " أنثى " لا يعرفها تلبى غرائز دنيا غير مسيطر عليها ، بل يمشى بحثا عن " وظيفة " ، يأكل منها ، تعينه على الزواج والايفاء بمتطلبات أطفاله ، أو بحثا عن " شقة " ولو " خرم ابرة " ، تأويه بمفرده أو مع أسرته.
الرجل " المتربى " ، هو الأب ، والأخ ، والحبيب ، والصديق ، والزوج ،والجار ، والزميل ، والصنايعى الحرفى العامل ، فى كل مجال ، الذى لا هم له ، الا اتقان عمله ، وكسب الرزق ، وبدونه لا تسير حياتنا ، ولا نقضى لوازمنا .
أما الرجل " الغير متربى " ، وشهواته الجنسية تمشيه ، فلابد من علاجه أخلاقيا ، وثقافيا ، ونفسيا ، وحجبه ، حتى يصبح لائقا للعيش بتحضر ، واحترام ، ورقى ، وتهذيب.
المرأة لم تخلق ، لتختبئ ، وتتغطى ، لحماية الذكور المنحرفين بشهواتهم .
الرجل " الغير متربى " هو الذى يدفع ثمن قلة تربيته ، هكذا العدل ، والأخلاق الصحيحة ، والمسئولية الغير معوجة ، والمنطق الرشيد . هذا غير ، أن الرجل الماشى يحركه النصف الأسفل جسده ، لن تفرق معه ، سواء غطينا المرأة أو لم نغطيها ، ففى كل الأحوال ، يعرف جيدا كيف يقضى شهوته.
خامسا ، أين كانت " الحرية الشخصية " للحجاب ، فى الخمسينات ، أو الستينات من القرن الماضى ، ألم يكن هناك دين ، أو اسلام ، فى مصر ، ألم نعرف " الحرية الشخصية " ، الا على أيدى الاخوان ، وتوابعهم ، الخارجين من الجحور ؟؟. واذا كانت " حرية شخصية " ، لماذا يشن أشرس هجوم دينى ، على المعارضين له ، أو على منْ تقرر خلع الحجاب ؟؟. واذا كان الحجاب " حرية شخصية " ، لماذا أصبح الرجال يشترطون فى الزوجة أن تكون " محجبة " ؟؟.
اذا كان الحجاب " حرية شخصية " ، لماذا طلب مرشد الاخوان المسلمين من الرئيس " عبد الناصر " عندما تولى الحكم ، أن " يحجب " نساء مصر ، ويلبسهن طرح ، ورفض " عبد الناصر " ، وتهكم على طلبه ، فى واحدة من خطبه الهامة والشهيرة ؟؟.
سادسًا، المفروض أن " الحرية الشخصية " ، لا تتعارض ، ولا تتناقض ، مع توجهات المجتمع الذى أعيش فيه ، والا فلماذا تكتب الدول الدساتير ؟؟.
ان الدستور المصرى ، يمنع استخدام الرموز الدينية بأى شكل ، لأنه تمييز دينى صارخ على الملأ . " الحرية الشخصية " ، لابد أن تكون متناغمة مع مصلحة الوطن ، واختياراته ، ومحاربة لأعدائه فى الداخل ، والخارج . ومنْ لا يعجبه توجه المجتمع ، فليذهب للعيش فى أفغانستان ، أو ايران مثلا .
" الحرية الشخصية " ، أمارسها فى بيتى ، بطريقتى ، متى أشاء ، ولهذا نطلق عليها " شخصية " . لكن لا توجد " حرية شخصية "، اذا كانت رمزا لعدو الوطن ، وتسبب فى الارهاب ، وسفك الدماء ، وتخريب المجتمع ومكتسباته ، والتمييز الدينى بين نسائه ، والتضحية بحقوق وحرية وكرامة نصف ما يشكل هذا المجتمع .
" حرية شخصية " ، للمرأة ، اذن لا تلبسه الا فى البيت ، لكنها لا تفعل ، لماذا ؟؟. لأنه لن يراها أحد ، وبالتالى ، سوف تنتفى الرسالة التى توجهها للمجتمع . الرسالة المنبثقة من كل التاريخ والتوضيح والتفسير ، الذى ذكرته سلفا . الحجاب ، شئ مفرغ من أى معنى ، الا استعراض التدين الشكلى ، والخوف من عدم تقليد الآخريات.
أيها النساء والرجال ، اقرأوا التاريخ ، قبل تسمية الأشياء بغير مسمياتها ، حتى لا تجرونا الى مناقشة أمور ، من المفروض أن ننتهى منها ، جذريا ، لنصنع الدولة المدنية المصرية الحديثة . اننى على يقين ، أنه لا توجد فتاة أو امرأة محجبة ، فى بلادنا ،قرأت كتابا واحدا عن تاريخ الاسلام ونشوء الأديان ، وعلاقة تغطية النساء ، بتغطية الحكم السياسى الباطش ، باسم الدين ، واحياء الاسلام .
لقد انهزم الإخوان يوم 30 يونيو 2013، وقال أحد قادتهم حينئذ مبتسما ابتسامة متهكمة : «على الأقل انتصرنا فى تحجيب فتيات ونساء مصر .. وهذا بحد ذاته انتصار سعينا اليه منذ زمن طويل ".
لا أحد ينكر أن المزاج الوجدانى الشعبى الآن فى أغلبه ، هو مزاج سلفى، إخوانى، ليس بمعنى الرغبة فى حكم دينى، ولكن الإيمان بالتفسيرات الدينية الإخوانية السلفية، والنظرة المهينة للنساء، ورؤيتهم العنصرية المتغطرسة المتعالية للمصريين غير المسلمين .
أبدا ، مصر ، لن تتقدم، الا بنبذ " الحرية بمرجعية القهر " ، وفضح السموم المندسة فى العسل.