د. أيمن منصور ندا يكتب.. في ذكرى صالح الشرنوبي


يعتبر الشاعر صالح الشرنوبي أحد أبرز الشعراء المظلومين في القرن العشرين؛ لم تنصفه الأقدار حيَّاً، ولم يُحتف به ميتاً.. ورغم نبوغه الشعري وعبقريته الأدبية، فقد طواه النسيان إلا عند بعض المتخصصين.. وتطل ذكرى وفاته كلَّ عام لتنكأ جراحاً أليمة، ولتثير تساؤلات عديدة حول سر تجاهل سيرة هذا الشاعر العظيم.. منذ عدة سنوات (سبتمبر 2020)، كتبتُ مقالاً عنوانه "لو عاش صالح" دعوت فيه إلى تكريم هذا الشاعر التكريم اللائق به.. ولا تزال دعوتي قائمة، ولا يزال التجاهل مستمراً.. ومما كتبت في هذا المقال أنني "لم أعشق شاعراً كما عشقته، ولم أحفظ ديواناً كاملاً لشاعر كما حفظت ديوانه، ولم أعش شاعراً في سكناته وحركاته، وفى جده وهزله، وصعوده وهبوطه، كما عشت مع هذا الشاعر سنين طويلة.. طفت حول بيته أياماً كما يطوف العابد بالحرم، والتقيت بعض أهله وأقاربه ممن عاصروه أو سمعوا عنه، مستدعياً ذكرياتهم معه، ومعلوماتهم عنه، وحكاياتهم التي عاشوها معه أو نقلها لهم آباؤهم.. "بلدياتى" الذي رأيت أن أعيش تجربته فلم أفلح، وتمنيت أن أكتب بعض أشعاره فلم أنجح، ورضيت من الغنيمة والسفر معه بالإياب مع إبداعاته.. على ضفاف مدينة بلطيم، حيث التقاء البحر الأبيض وبحيرة البرلس، ولد شاعرنا صالح الشرنوبي في 26 مايو 1926، وفى مثل هذه الأيام من شهر سبتمبر (17 سبتمبر 1951) رحل عنها، تاركاً وراءه ثروة شعرية متفردة، وقصة إنسانية هي الأكثر تعبيراً عن عبثية المقادير في علاقة المبدع بالحياة.. وليصبح هذا التاريخ موعداً سنوياً لاحتفاء محافظة كفر الشيخ بشاعرها العبقري.
"لو عاش صالحٌ لبذَّ شوقياً"، عبارة تُنسَب إلى الأستاذ العقاد في وصف الشاعر صالح الشرنوبي في إشارة إلى عبقرية هذا الشاعر الذي مات عن عمر لا يتجاوز السابعة والعشرين من عمره تاركاً وراءه أحد عشر ديواناً تم نشرها مجتمعة (1966) في مجلد واحد بلغ عدد صفحاته (675) صفحة من درر الشعر العربي المعاصر.. كان الشرنوبي على حدّ تعبير صالح جودت في كتابه "بلابل من الشرق": "شاعراً موهوباً من أبناء الموت.. كانت حياته في كل حركاتها وسكناتها تشير إلى أنَّه لابدَّ لاحقٌّ بهؤلاء الموهوبين من شعراء الشباب الذين قضوا في عمر الزهور".. ويضيف جودت أنَّ الشرنوبي "هو كالهمشري والشابي وفوزي المعلوف وغيرهم ممن احترقوا حساً وعاطفة، ورأوا أنَّ الدنيا لا تتسع لأمانيهم، وأنَّهم خُلِقوا ليعيشوا في عالم من النور لا من التراب".. وفى تقديمه لديوان الشرنوبي، يشير الدكتور أحمد كمال زكي إلى أنَّه "عندما يُؤرخ للشعر العربي المعاصر سيوضع صالح الشرنوبي في مقدمة مرتاديه، ولن يكون صغر سنه بين الرواد إلا دليلاً على صدق موهبته".. وفى كتابه بعنوان «الشرنوبي النهر الذي أسكر العالم"، يقول الشاعر المبدع محمد الشهاوى عن الشرنوبي "هو شاعر له الأبد صديقًا.. والخلود رفيقًا".. وقد ذهب بعض النقاد مثل الدكتور محمد مندور "إلى أنَّ قصيدة «المواكب» للشرنوبي تعتبر من أفضل قصائد العربية قاطبة في مخاطبة الله، ووضعها في مكانة أعلى من قصيدة "الطلاسم" لإيليا أبى ماضى.
كان الشرنوبي يدرك حظه السيئ في الحياة، ويدرك أبعاد شقائه السرمدي وكأنَّه سيزيف في الأساطير الإغريقية: "مكانتي أصغر من حقي/ وحاجتي أكبر من رزقي.. وحكمة الخالق في خلقه/ أعماقها أبعد من عمقي".. قبل وفاته بأشهر معدودة كتب عن حالته: "فما أظن الأرض تحوي فتى/ وجوده قد كان إحدى الكبر ... مثل فتى يدعونه شاعراً/ وما بغير الموت يوماً شعر... أتى فلم يفرح بميلاده/ إلا نديماه الأسى والفكر".. وفي اعتقادي، فإنَّ صالح الشرنوبي أعظم موهبة، وأكثر غزارة في الإنتاج الشعري من نظيره التونسي "بلقاسم الشابي".. قراءة الإنتاج الشعري لكليهما يؤكد ما ذهبنا إليه.. كلاهما مات في سن واحد تقريباً (الشابي خمسة وعشرون عاما، والشرنوبي سبعة وعشرون عاما) وكلاهما ينتمي إلى ذات المدرسة الشعرية (الرومانسية/ أبوللو)، وظهر ديوان كل منهما في الفترة نفسها تقريباً (الشابي (1955)، الشرنوبي (1966))، غير أنَّ الاهتمام التونسي والعربي بتراث بلقاسم الشابي جعله في طبقة شعرية مختلفة ومتفردة عن الطبقة التي تم تصنيف الشرنوبي إليها.
بعد أشهر قليلة، تطل علينا مئوية صالح الشرنوبي (1924- 2024)، وهو ما يجعلنا ندعو إلى ضرورة التجهيز لإقامة احتفالية ثقافية وأدبية تليق به، وبما قدمه... منذ وفاته، وحتى سنوات قليلة مضت، كان يقام مؤتمر شعري سنوي في ذكرى وفاته، يحضره كثير من الشعراء الكبار والأدباء المرموقين.. في السنوات الأخيرة تبدل الحال والمآل، وأصبح المؤتمر محدوداً، يكاد يحضره شعراء بلدته فقط وبعض القرى المجاورة! نحتاج إلى مؤتمر موسع برعاية وزارة الثقافة، وجامعة كفر الشيخ، والهيئات الثقافية المعنية؛ مؤتمر يحضره كبار الشعراء والأدباء في مصر، وتنقل فعالياته وسائل الإعلام المصرية.. أتمنى أن يتم إنتاج فيلم تسجيلي/ وثائقي عن حياة الشرنوبي، على غرار فيلم "الشابي: شاعر الحب والحرية"، الذي تم إنتاجه في مئويته (1909- 2009)، ولدينا القناة الوثائقية بإنتاجها الراقي البديع، والقناة الثقافية بعمقها القديم المتجدد.
سلام على صالح الشرنوبي يوم وُلِد، وسلام عليه حين ترك لنا هذه الدرر الشعرية، وسلام عليه إذ يعيش بيننا خالداً رغم رحيله، ونابضاً بالحياة رغم مغادرته لها.