محمود حسن يكتب: سر إنزعاج الملائكة


" وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " ؟!
وهنا نلاحظ أن الفساد تقدم على سفك الدماء ،
ما يضع دلالة بينة على ان الفساء أشد بشاعة من سفك الدماء ،
نعم الفساد أشد وأخطر من سفك الدماء ، بل أن سفك الدماء هو أحد نتائج الفساد التي لا حصر لها ،
وقد كره الله عز وجل الفساد ولعن المفسد ، فأبغض الفعل والفاعل ، وحذر من الفساد مرارا وتكرارا ، وتوعد المفسد بأشد الوعيد ، فقال " إن الله لا يحب المفسدين "
بل إن من هول وخطورة الفساد تجد أن الله إعتبر الفساد حرب ضده عز وجل ، وأن المفسد محارب للذات العليا نفسها وليس للبشر ، فقال " إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ "
وهنا نشاهد غضبة المولى عز وجل كما لم يغضب من قبل ولا من بعد ، فيكيل للمفسد من العقاب في الدنيا والآخرة ما لم يقره على سواه ، من القتل والصلب وتقطيع الأيدي والأرجل والنفي والخزي في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة ،
ولما كانت شهوة الملك هي أقوى الشهوات بلا منازع ، فهي تجعل الحاكم يقتل من أجلها أقرب الناس إليه ، وهو ما أثبته التاريخ القديم والحديث من قتل الحاكم لأبيه وامه وأخيه وزوجته وربما إبنه للحفاظ والإحتفاظ بكرسي العرش ، ذلك لأن العرش يصيب صاحبه بشهوة عشق له لا تقاوم ، " وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ "
إلا من رحم الله فمكنه من قهر تلك الشهوة وكبح جماح نفسه ، فألقى بالتاج الذهبي تحت قدمه وتواضع لله فرفعه ، ولم يضعه فوق رأسه ليملئه غرورا وكبرا ،
ومما نلاحظه في الدنيا بعيني رؤوسنا أن عاقبة المفسد تظهر عليه قبل موته وتظهر أيضا في طريقة موته ، فيذل مهما كان عزيزا ويقهر مهما كان قاهرا وتدك قواه مهما كان قويا ، يسجن بعد ان كان سجانا ، ويقتل في عز سلطانه إن كان مقاتلا ، ويسحق بالأقدام مهما كان عزيزا ، وينفى من الأرض مهما كان ملكا ومالكا ، لأنه قاسم الله في ملكه ، ونازعه في سلطانه ، ونسي أنه قال في حديثه القدسي " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري من نازعني فيهما قسمته ولا أبالي " ،
فمنذ عقود قليلة اطلق أحد الحكام على نفسه لقب " الشاه شاه " ومعناها ملك الملوك وحينما لقي حدفه لم يجد شبرا يواري سوءته ، وكأن لسان حاله يقول له أين ملكك يا ملك الملوك ؟ " وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ "
والفساد من صنع البشر وكسب أيديهم ، والإنسان هو من يختار بنفسه أن يكون فاسدا لذا قال تعالى " ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ "
إذن فالفساد هو الإنحلال والإنحراف والتلف وعدم إحترام الأعراف والقوانين وإختلال ميزان العدل ، وخروج الأمور عن مسارها الصحيح والإستبداد هو أصل كل فساد ،
والمفسد هو من يفعل أحد أو بعض أو كل ما سبق ،
وهذا سر دهشة وانزعاج الملائكة الذين يسبحون بحمد الله ويقدسون له ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ،
ولكن الله شاء أن يخلق البشر وعلل بقوله تعالى " إني أعلم مالا تعلمون " وكان مقصده سبحانه أنكم ستجدون من عبادي من يكون صالحا محبا للخير والحق والعدل والجمال ،
وفي التاريخ أعظم أمثلة لكثير من الحكام الذين وعوا الدرس ورعوا الأمانة وعلموا ان الملك فتنة ومحنة وابتلاء من عرف تبعاته زهد فيه لأنه تكليف وليس تشريف ، فارتعدت اوصالهم من عظمة المسئولية فاتقوا الله حق تقاته وتجنبوا الفساد ، فساد العدل ، وفازوا بخيري الدنيا والآخرة ،
وارتقوا بارواحهم فوق مستوى شهوة الملك فتبؤوا منزلة تفوق مكانة ومنزلة الملائكة الكرام ،
فهنيئا لمن ملك فأصلح ، وسحقا لمن إمتلك فأفسد .