خيريه البشلاوي تكتب: الست والمشهد الأخير
المخزون المعنوني عندي أصبح شحيحًا، حتى إنني فقدت الحماس للكتابة عن فيلم جرّدني من الحماس تدريجيًا أثناء الفرجة، لولا مشاهد النهاية التسجيلية التي حرّكت حنيني للبكاء. جنازة شارك فيها عشرات الآلاف من المصريين على نحو مهيب وأثير، شكّلت جزءًا عزيزًا في الذاكرة البصرية لدى المصريين، خصوصًا لمن تابعها وقت حدوثها… مشاهد جنازة الست حرّكت مشاعر حزن عميق تصوّرت أن الزمن خفّف منه، ولكن مأساة الفقد تبقى كامنة لا تنمحي! خاصة وأن الفقد في هذا التوقيت يطال أشياء كثيرة ونافذة في مسيرة التطور الاجتماعي، فحتى الأعمال الفاترة والرديئة لم تكن تسلبني الرغبة في أن أمارس الكتابة عنها، وهنا تذكّرت قول المسيح عليه السلام وأنا في طريقي للخروج من دار العرض: ليتك باردًا أو ساخنًا لكنك فاترًا تثير النسيان.
الفتور في عملية التلقي يصيب تجربة الفرجة في مقتل، خاصة في عمل يتناول سيرة حياة قامة تاريخية وفنية بحجم السيدة أم كلثوم (سومة)، وفيها من التحريف والجور أكثر من الالتزام الموضوعي! أين (الست) التي أسرتنا وتربّعت في أعماق أعماقنا، وزماننا الذي كان، والتي عاشت فينا ومعنا وبقيت خالدة في الزمان والمكان كجزء لا يتجزأ من كينونتنا، تاريخنا، مزاجنا، شبابنا الروحي، ذائقتنا الفنية، ربيع أحلامنا؟ لم أجد الست، ولم أقتنع بها في أي مشهد، ولم أصدق تلك المؤدية التي لا تشبهها أبدًا، والتي اختيرت لكي تجسّد سيرتها، فليس بالاجتهاد وحده، ولا محاكاة الشكل، أو استدعاء لغة الجسد، أو تقمّص نبرات الصوت. أين الروح؟ أين جوهر الإنسانة الفريدة، والتي لن تتكرر بهذه التركيبة الفريدة؟ أين المصداقية؟؟
المسافة بعيدة بين الأصل والصورة، حقيقي بعيدة، أشعرتني بالغربة طوال مدة العرض، وسلبتني القدرة على التجاوب في كل الأحيان، والسخرية في كثير من الأحيان، وأفشلت تأثير جودة الصورة وانسيابية الحركة في بعض المشاهد المفصلية، خصوصًا مشهد البداية، والتي كررها المخرج في أكثر من موقع نظرًا لأهميتها في السيرة كما تصورها كتابها. لا أندهش من التباين الرهيب في ردود الأفعال بين أجيال عاشت وعايشت وامتزجت وذابت في زمن أم كلثوم، وبين أجيال، ومنهم صناع الفيلم، اختلفت اختلافًا دراماتيكيًا بفعل عوامل عديدة ونافذة أسهمت في تركيبتهم النفسية وثقافتهم ومزاجهم، فضلًا عن فترات زمنية متعاقبة غيّرت ونالت وصالت وجالت في أدمغتهم وتركيبتهم الموضوعية، وأيضًا مواقفهم وانتماءاتهم الشخصية؛ صناع العمل أرادوا أن يعيدوا إنتاج سيدة الغناء العربي بما يتناغم مع خيالهم ورسالتهم التي أرادوا بثها، والتي تنزع القداسة عنها، وتقديمها لأجيال جد مختلفة، ولأغراض مختلفة.
والفارق لافتًا جدًا بين المشاهد التسجيلية القليلة التي استعان بها الفيلم، وبين تلك المتكلّفة المصطنعة بلا ذكاء، وبرغبة لا تخفى في التحريف، وبدت المسافة بنفس الدرجة من الاتساع بين ألحان الأغنيات التي صاحبت بعض المشاهد، وبين الموسيقى الزاعقة التي تغوّلت على مسار السيرة غير الذاتية التي تناولها الفيلم. سوف تظل هذه التجربة إنتاج ٢٠٢٥ شاهدًا في تاريخ صناعة السينما والدراما على مواقف الأجيال إزاء التاريخ الفني المصري، كما عكستها الأعمال التي أنتجها كل جيل، ومن حسن الحظ أن نصيب الست من هذه الأعمال متنوعًا وباقيًا، وتجربة هذا الفيلم لن تكون الأخيرة في كل الأحوال.








