السيناريست عماد النشار يكتب: ”شَرف” صُنع الله إبراهيم... و”لجنته” و”ذاته”


غادرنا صنع الله إبراهيم، وبقيت رواياته تتنفس،رحل الجسد، لكن صوته ما زال يهمس في رأسي كما فعل أول مرة قرأت "شرف"، وتعثرت في الحقيقة، لا في اللغة.
لم ألتقي صنع الله إبراهيم يومًا، لكنني عرفته كما يُعرَف المعلّم، لا يُدرّس لك، بل يكشف لك شيئًا عن نفسك وعن العالم، ثم يتركك تتعامل مع الوجع، لم يكن كاتبًا من ذلك النوع الذي يدعوك للإعجاب، بل من أولئك الذين يصعب أن تنساهم، لأنهم يقولون ما لا يريد أحد أن يسمعه.
أتذكّره اليوم لا كأيقونة، بل كصوت ظل يؤرقني لسنوات، ويصاحبني في يقظتي وحلمي .
عرفته عبر "شرف"، ثم "اللجنة"، وأخيرًا "ذات"، ثلاث روايات ليست مجرد كتب، بل ثلاث محطات قلبت شيئًا داخلي.
في "شرف"، ، عندما يدخل فتى الطبقة المتوسطة إلى السجن،فكل الوطن في زنزانة، وهناك تتكثف مصر.
كل شيء كان موجودًا في تلك الزنزانة، السلطة، السوق، الفساد، العجز، الطبقية، العدالة الغائبة، لم تكن الرواية عن البطل، بل عن البلد، حين يُختصر في جدران ضيقة، وأقدار تُدار من فوق.
انتهيت من الرواية وأنا مغمور بإحساس واحد، أنني رأيت شيئًا لا يُنسى، لا لأن صنع الله صرخ، بل لأنه لم يصرخ، اكتفى بأن يفتح الباب، ويدعنا نرى.
أما "اللجنة"، كابوس البيروقراطية والسؤال المحظور ،فكانت تجربة أخرى تمامًا.
أقرب إلى كابوس كافكاوي عربي، حيث البطل يُسأل، ويُراقب، ويُعذّب،لا لشيء، بل فقط لأنه سأل.
كانت رواية عن السلطة حين تتحول إلى آلة ضخمة بلا وجه، عن الفساد حين يلبس بدلة رسمية، عن الحقيقة حين تُصبح تهمة،هذه الرواية لم تكن فقط عبقرية في بنائها، بل مرعبة في صدقها.
كنت أقرأها وأشعر أنني أعرف تلك اللجنة، رأيتها، تعاملت معها، أو ربماأصبحت جزءًا منها دون أن أدري.
لكن "ذات" ،مرآة العمر والبلد، كانت الأقرب إلى قلبي،رواية امرأة، لكنها في الحقيقة رواية وطن،
نتابع "ذات" منذ السبعينات حتى الألفية، ونتابع معها كيف يتغير كل شيء،البيت، الإعلام، الأكل، حتى الكرامة،كانت الرواية توثق ما لا ننتبه له،
أصغر التفاصيل التي لا نذكرها هي التي صنعت أكبر التحولات.
وبين سطور "ذات"، رأيت أمي، وجاراتها، وتلفزيون البيت، وخوف الناس، وضحكهم، وخيباتهم الممنهجة.
صُنع الله إبراهيم، راحل تُبكيه الحروف وتُشيّعه الذاكرة، سكت قلم ظل يقاتل نصف قرن بالحبر،رحل الكاتب الذي ظل واقفًا على ناصية الوطن، يراقب ويتألم، ثم يكتب،لا لينال جائزة، ولا ليكسب ود سلطة، بل ليقول الحقيقة كما رآها، بصوت خافت كالكتمان، لكنه نافذ كطلقة.
في أسلوبه، لم يكن يحب الزينة، يكتب كمن يكتب تقريرًا صحفيًا، لكن خلف الجمل الباردة كانت النيران تشتعل،شخصياته لا تصرخ، بل تهمس،ومع ذلك يصل صوتها بعيدًا،وكيف لا وهو الذي ولد على ضفاف النيل وفي حضن القاهرة، المدينة تعجّ بالأسئلة والاحتمالات،ترعرع في بيت لا تغيب عنه الكتب، ولا تغيب عنه الرائحة القديمة للحبر والمعنى، والده، الحكّاء البارع، علّمه أن للكلمات قوى لا تراها العين.
درس القانون، لكن قلبه اختار طريقًا آخر، دخل معترك السياسة مبكرًا، وانضم إلى تنظيم شيوعي، فتلقى أول دروسه في الألم حين اعتُقل عام 1959، ليقضي خمس سنوات في السجن،كان يمكن لتلك التجربة أن تنهيه، لكنها في الواقع ولدته كاتبًا.
خرج من السجن، لا بأملٍ كثير، بل بوعي أكثر،عمل في الصحافة، وسافر إلى برلين وموسكو، ثم عاد إلى وطنه محملًا برؤية حادة لما يجري، أنظمة تُسقِط أحلام شعوب، وساسة يتاجرون بالوطن، وثقافة تُغلف القبح بورق لامع،لم يكن روائيًا فقط كان مؤرخًا غير رسمي لعصرٍ عربيٍ مأزوم ،فحين نقرأ لصنع الله، لا نقرأ رواية فحسب، بل نفتح ملفًا سريًا لعصرٍ كامل،رواياته ستبقى، لأنها ليست مجرد أدب، بل وثيقة، شهادة، وصرخة ضد الزيف.
مواقفه كانت أشبه برواياته، صلبة، رافضة، شريفة.
رفض جائزة الدولة في 2003 أمام عدسات التليفزيون، وقال: "لا أستطيع أن أقبلها من نظام يزوّر الواقع ويقمع حرية الإبداع"، موقف لم يُنسى، بل صار علامة على نزاهته.
ابتعد عن حفلات التكريم، واختار أن يعيش في شقة بسيطة، يكتب فيها ويقرأ ويعيش بضمير هادئ، لم يساوم، لم يُهادن، ولم يركب موجة، لم يدخل لعبة الوجاهة الثقافية.
اليوم، بعد رحيله، أعود إلى "شرف"، و"اللجنة"، و"ذات"، لا لأقرأ، بل لأتذكّر،كيف يمكن للكلمات أن تكون خنجرًا في خاصرة الزيف،وكيف يمكن للكاتب، إن أراد، أن يظل حرًا، حتى بعد أن يرحل.
وداعًا يا من علمتنا أن لا نهادن،علمتنا أن الكتابة ليست رفاهية، بل مقاومة،وأن الرواية قد لا تغير العالم، لكنها تغيّر قارئًا،وهذا يكفي.
سلام عليك في رحلتك الأخيرة، يا من كتبت لأنك لم تقدر على الكتمان.