السيناريست عماد النشار يكتب: من هنا مرّ الفن… ثم ضلّ الطريق


لم تكن البداية مجرد لحظة عبور، بل ميلاد ذاكرة، من هنا مرت السينما، مرت الدراما، مرت الحكايات التي صنعت وجدانًا عربيًا كاملًا، من الخليج إلى المحيط، بلكنة قاهرية، أو بحزن عينين لفاتن حمامة، أو بضحكة مشاغبة من سعاد حسني، لم تكن الصورة مجرد حركة، بل نبض، ولم تكن الدراما مجرد تسلية، بل مرآة تحمل وجوهنا كما هي، متعبة، عاشقة، ناقمة، حالمة.
كان الفن المصري لزمنًا أكثر من مجرد صناعة، كان ضميرًا يُعرض على الشاشة، وصوتًا ناطقًا باسم الناس، لا مجرد صدى للمؤسسات، لم تكن السينما زينة ثقافية في صالات النخبة، بل ذاكرة حيّة تُعرض في الحواري، في البيوت، في أحاديث العائلة، كان الفيلم أو المسلسل يُتابع لا لأنه ترند، بل لأنه يعكس روحًا، يشرح عقدة، يربّي وعيًا، من باب الحديد إلى الكرنك، من المال والبنون إلى ليالي الحلمية، لم تكن الحكايات بعيدة عن الواقع، بل كانت نحن، فقراء نحلم، مثقفون نتمرد، عشّاق نخاف، ومجتمع يتغيّر.
لكن شيئًا ما انكسر، لا نعرف متى بالتحديد، لكن ما نعرفه أن الصدق انسحب من الصورة، وتحوّل السؤال من ماذا سنقول إلى كم عدد المشاهدات، ومن أي قصة تستحق أن تُروى إلى أي إعلان سيظهر في الفاصل، تراجع الفن من وجدان إلى واجهة وديكور يفتقد الذوق، من ضمير إلى دعاية صاخبة، تحوّلت الدراما إلى نسخة متكررة من نفسها، فقدت الحرارة، فقدت الدهشة، صارت حواراتها باهتة، ومشاهدها متوقعة، وشخصياتها نمطية، لا مفاجأة، لا صدق، لا أثر.
تسأل شابًا اليوم عن مسلسل تعلّم منه شيئًا، عن فيلم حرّكه من الداخل، فيكون السكوت أبلغ رد، وفي أغلب الأحيان مصحوبًا باستهجان وسخرية، لا لأن الإنتاج شحيح، بل لأن الروح غائبة، نرى الميزانيات تتضخم، والإعلانات تملأ الشوارع، لكن الشاشات في عمقها فارغة، باتت الأعمال تُكتب لتُباع، لا لتُشاهد، تُصوّر لتُملأ بها المنصات، لا لتبني ذاكرة.
ثم جاءت اللحظة التي قرّرت فيها القيادة السياسية أن تتدخل، وأُعلنت عن رغبة واضحة في إصلاح المشهد الفني، خرجت تصريحات تؤكد على أهمية استعادة الدور الثقافي للفن، وتعزيزه كرافعة للهوية والقيم، تبعتها قرارات ومبادرات وخطط شاملة، أبرزها مؤتمر الدراما وتوصياته، دون أن نلمس حتى الآن خارطة تنفيذية واضحة أو نتائج ملموسة، ثم أُعلنت وزارة الثقافة إعادة ترميم الاستوديوهات، رقمنة الأرشيف، تشغيل دور العرض المغلقة، وإنشاء شركة إنتاج وطنية، بدا أن هناك جهودًا لتحريك ما توقّف طويلًا، وزارة الثقافة عبّرت بوضوح عن تراجع مستوى الكتابة، ضياع الحبكة، ضعف الرؤية، وأكدت أنها تعمل على إعادة توجيه الفن نحو أهداف معرفية وتنويرية.
لكن في الكواليس، لم يكن التفاؤل غالبًا، بل غائبًا، وبدأت همسات، تحوّلت إلى شكاوى، ثم إلى صرخات مكتومة، ليس لأن أحدًا يرفض أن يكون الفن مسؤولًا، بل لأن كثيرين رأوا أن الطريق المتّبع لإصلاحه لا يمنحه الحرية الكافية، وأن المسار يبدو أقرب إلى إدارة أزمة منه إلى مشروع نهضة، البعض يرى أن ما يحدث لا يسمح للمبدع أن يبدع، بل يدفعه إلى الالتزام بإطار جاهز، حيث الكاتب لا يكتب ما يريد، بل ما يُنتظر منه كي يمر، والمخرج لا يقدّم رؤيته، بل ينفّذ ما تقرّره جهة الإنتاج، وهناك من يشير إلى أن بعض الهياكل لم تتغير، وبعض الإجراءات لم تتطور، وأن الحديث عن القيم لا يزال في إطاره البلاغي العام دون أن يتحول إلى بيئة داعمة حقيقية للإبداع.
في المنصات غير الرسمية، والأحاديث الجانبية والفضفضة، كُتبت جمل تلخص الوجع كله، الفن صار يُدار كمنتج لا كفكرة، الدراما أصبحت وسيلة إحصائية لا عملًا إنسانيًا، نُشاهد لكن لا نشعر، نستهلك لكن لا نتورّط.
ومع ذلك، حين عُرضت أفلام سينما الشعب بأسعار رمزية في صالات بسيطة، هرع الناس، ليس لأن بها مؤثرات خارقة، بل لأنها كانت صادقة، وكأن الجمهور يقول نحن لا نبحث عن البذخ، بل عن البوح
ما ينقصنا ليس المال، لا الكاميرات، لا النجوم، بل العمق، الجرأة، حرية الإبداع، ما ينقص هو المناخ الذي يسمح للمبدع أن يصرخ، أن يضحك، أن يشك، أن يسخر، أن يبكي، أن يقول ما يريد، دون أن يُساق لما يُراد منه أن يقول، لا يمكن لدراما تنويرية أن تزدهر دون ثقة بالمبدع، ولا تُصنع سينما تُحرّك الوجدان داخل حدود ضيقة من التعبير، لا يُبنى الوعي في اللجان، بل في النصوص التي تطرح الأسئلة، وفي المشاهد التي تهز الضمير، وفي شخصيات لا تخشى أن تكون معقدة، متناقضة، لا تُرضي الجميع.
المشهد الآن غريب، الإنتاج وفير، لكن التأثير نادر، التصريحات متفائلة، لكن الصمت الداخلي مدوّ، الجيل الجديد يشاهد لكنه لا يتعلّق، يتنقّل لكنه لا يتورّط، يحفظ الوجوه لكنه لا يتذكّر ما قيل، أما الجيل القديم، فتأكله الحيرة بين ما كان وما صار
المؤلم أن الانهيار لم يحدث بانفجار، بل بالتآكل، لم تُحجب الحرية فجأة، بل تراجعت بالتدريج، حتى الاستثناءات، تلك الأعمال التي تجرؤ أحيانًا، تُترك تتنفس قليلًا، ثم يُغلق الباب خلفها، وتُعامل كحالة فردية لا قاعدة.
وهكذا، وجدنا أنفسنا أمام فن لا يشبهنا، ولا يعبّر عنّا، كأنّ الشاشة صارت مرآة مشوّهة، تُظهرنا كما يريد السوق، أو كما تحدّد بعض التوجهات العامة، لا كما نحن.
ووسط كل هذا، يبقى السؤال الحقيقي، هل نملك شجاعة أن نترك الفن حيًا، لا تحت سلطة شعارات، ولا داخل قوالب مصمّمة، بل حيًا كما يولد، مشاكسًا، متعدّدًا، مقلقًا أحيانًا، لكنه صادق، هل نملك الشجاعة أن نثق في مبدع، أن نتركه يقول ما يراه، لا ما يُطلب منه أن يراه، أن نؤمن أن الشعوب التي صنعت نجيب محفوظ، وأم كلثوم، ويوسف شاهين، ليست بحاجة إلى وصاية تربوية، بل إلى من يفتح لها الطريق لتروي نفسها بنفسها.
ليست النهضة في مزيد من الإنتاج، بل في السماح للصوت المختلف بأن يعيش، ليست في استعادة دور عرض، بل في استعادة دور الضمير، ليست في عدد المشاهدات، بل في نوع السؤال الذي يتركه العمل داخل الروح
إن لم يكن الفن حرًا، فلن يكون صادقًا، وإن لم يكن صادقًا، فلن يكون وطنيًا مهما توشّح بالشعارات، فالفن ليس واجهة تنموية، ولا مكمّلًا تجميليًا لأي خطاب، بل هو في جوهره ضمير ناطق، مرايا تتكسّر حين تُزيّف، وتُضيء حين تُترك كما هي.
الناس لا تزال تنتظر، لكنها سئمت الانتظار، تنتظر عملًا يقول ما يرغبوا أن يعبر عنهم ، ثرثرة فوق النيل، ضد الحكومة، الإرهاب والكباب، الراقصة والسياسي، الكيت كات ، تتوق لشخصية تُشبهها، مشهدًا يترك أثرًا، جملة لا تُنسى، ما زال هناك حنين، لطيور الظلام، وحسن ومرقص، والسفارة في العمارة، وطباخ الرئيس، والهروب، وطائر الليل الجريح، ما زالت هناك موهبة في الشارع، وذاكرة في القلوب، وشغف لم يمت، لكن الزمن لا ينتظر طويلًا، والمبادرات وحدها لا تكفي إذا لم تقترن بالإرادة المخلصة والشجاعة.
ربما تكون هذه ليست نهاية القصة، بل بدايتها، فإما أن يُعاد للفن صوته، ويُترك حيًا، أو فلنطفئ الأضواء بشرف، فالموت واقفًا خير من حياة منزوعة الروح، خاضعة للتسطيح، ومفرغة في قوالب السوق.
وختامًا،إلى من يهمه الأمر ،حين ينسحب الفن الراقي لا يتبقى سوى الفراغ،فيملؤه الاسفاف، ويعلو غثاء التيك توك المحرض على التفاهة، المكرس لتشويه المعنى وهدم القيم ،والمزيف لوجه الحياة.
فلا تجعلوا الفن ديكورًا، ولا تسجنوه في نشرات رسمية، دعوه يخرج إلى الهواء، أو لا تلوموا أحدًا حين لا يبقى شيء يقال.