السيناريست عماد النشار يكتب: العالم في حالة هذيان.. الجنون يجتاح السياسة والمجتمع والإعلام


لم يعد الجنون مجرد نوبة طيش عابرة أو مشهدًا سينمائيًا يثير دهشتنا، بل تحوّل إلى نمط حياة عالمي يفرض نفسه في السياسة، ويتغلغل في نسيج المجتمعات، ويتجلى في الإعلام والسلوكيات اليومية وكأنه القاعدة الجديدة. لم نعد بحاجة إلى عناوين مثل "صدق أو لا تصدق!"، فقد أصبح الواقع نفسه أكثر غرابة من الخيال، حيث تُصنع القرارات بعبث، وتُكرَّس الفوضى كمبدأ، ويُحتفى باللامنطق بوصفه فضيلة العصر.
في عالم السياسة، يبدو أن المنطق استقال من منصبه، تاركًا الساحة لفوضى تتحدى كل قواعد العقل. زعماء يتخذون قرارات أقرب إلى النكات السمجة، وبرلمانات تناقش قوانين لا يجرؤ كتاب الكوميديا على تخيلها، وحكومات تقود شعوبها بوصايا مستوحاة من كتب التنمية البشرية أكثر من استراتيجيات الحكم الرشيد.
تأمل المشهد: رئيس دولة يعلن أن "الاحتباس الحراري مجرد خدعة تروج لها شركات المراوح!"، وحكومة تقرر أن حل أزمة البطالة يكمن في إقناع العاطلين بأن "العمل ليس كل شيء، فالسعادة أهم!"، وكأن الأجور مجرد رفاهية يمكن الاستغناء عنها!
وفي مكان آخر، تُطرح أمام البرلمان مقترحات مثيرة للدهشة، مثل فرض "ضريبة الهواء النقي" تحت شعار "استدامة الموارد"، بينما تتبنى دولة أخرى استراتيجية اقتصادية تقوم على فرضية أن الأزمات المالية "فرصة ذهبية لتدريب المواطنين على فن التقشف!"—وكأن الفقر أصبح دورة تدريبية ينبغي اجتيازها بنجاح!
قد يظن البعض أن هذه مجرد مبالغات ساخرة، لكن الواقع يحمل مفاجآت تفوق الخيال. في عام 2018، قرر زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون تغيير التوقيت الرسمي للبلاد بفارق نصف ساعة عن التوقيت العالمي، فقط لإثبات استقلالية بلاده عن "الإمبريالية الزمنية"! وبعد ثلاث سنوات، ألغى قراره بنفس العبثية التي اتخذه بها، مما يثبت أن بعض القرارات السياسية لا تُبنى على استراتيجيات مدروسة، بل على نزعات فردية تحكمها الأهواء أكثر من المصالح العامة.
وعندما يصبح العبث هو السمة السائدة في الحكم، فإنه لا يظل حبيس القصور الرئاسية، بل يتسرب إلى المجتمع، ليصنع عالماً يتكيف مع اللاعقلانية وكأنها الوضع الطبيعي الجديد.
في الماضي، كان النجاح مرتبطًا بالاجتهاد والابتكار، أما اليوم، فكلما كان الفعل أكثر جنونًا، زاد عدد المشاهدات والإعجابات. لم تعد المسابقات تُقام في مجالات البحث العلمي، بل فيمن يستطيع التهام أكبر كمية من الفلفل الحار دون طلب كوب ماء، أو من يقفز من فوق جسر ليثبت أنه "لا يخاف شيئًا"—باستثناء المدام طبعًا!
اقرأ أيضاً
السيناريست عماد النشار يكتب: زينب بنت جحش: بين أمر السماء واختبار القلب
السيناريست عماد النشار يكتب: شَهْرُ الفَرَحَةِ، فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا
السيناريست عماد النشار يكتب: مدارس الزعيم الأباصيري للأخلاق الحميدة!
السيناريست عماد النشار يكتب: بين الإدراك والتغافل.. حينما يصبح الوعي منفى والتغافل وطنًا
السيناريست عماد النشار يكتب: يُحْكَى أنَّ...
السيناريست عماد النشار يكتب: قَاهِرَةُ اليَوْمِ الضَّائِعِ.. رِحْلَةٌ فِي قَلْبِ مَدِينَةٍ تَحْتَفِظُ بِأَسْرَارِهَا
السيناريست عماد النشار يكتب: الصَّمْتُ دِرْعُ النَّجَاحِ.. احْفَظْ سِرَّكَ تَبْلُغْ مُرَادَكَ
السيناريست عماد النشار يكتب: زي الفل.. حين يكتب الألم شهادة للحياة
السيناريست عماد النشار يكتب: ” مئوية”سعد الدين وهبة
السيناريست عماد النشار يكتب: أوسكارُ أحسنِ بُطولةٍ وسِيناريو وإخراجٍ
السيناريست عماد النشار يكتب: ممدوحُ الليثي رائدُ الإبداعِ السينمائيِّ وصانعُ الدراما الخالدةِ
السيناريست عماد النشار يكتب: كَمَالُ المَلَّاخِ: عَبْقَرِيَّةٌ مُتَجَدِّدَةٌ وَمَشْرُوعُ نَهْضَةٍ لَا يَمُوتُ
أما على مواقع التواصل، فقد تلاشت الحوارات الفكرية العميقة، وحلّت محلها معارك إلكترونية حول: "من ألغى متابعة من؟ ومن زار البروفايل؟" وكأن الجدل الفكري أصبح ترفًا من الماضي، واستُبدلت النقاشات الجادة بمباريات في تصفية الحسابات وكيد النساء.
وفي سياق آخر، بينما كانت الأجيال السابقة ترى الزواج تتويجًا لمسيرة الحب، أصبح الطلاق اليوم مناسبة تستحق الاحتفال! حفلات تقام للمنفصلين، تُلقى فيها التهاني، وتوزع الهدايا، ويُقطع "تورتة الطلاق" المزينة بعبارات مثل: "وأخيرًا حرة!" أو "عقبالكم!". وإذا بدا لك هذا المشهد ضربًا من الخيال، فالأخبار تؤكد أن هذه الظاهرة تزداد انتشارًا، حتى أن بعض الشركات باتت تقدم خدمات خاصة لتنظيم حفلات الطلاق وكأنها احتفال بالتحرر من قيود السجن!
وفي ظل هذا الواقع، يصبح الفرد العادي متكيفًا مع فكرة أن الضجيج يساوي النفوذ، وأن اللاعقلانية ليست مجرد سلوك شاذ، بل هي القاعدة التي تُدار بها الحياة.
أما بالنسبة للإعلام فلم يعد ينقل الأحداث، بل بات يصنعها، حيث لم تعد الأولوية للخبر الأكثر أهمية، بل للأكثر غرابة وإثارة. على شاشات الأخبار، قد تجد عناوين مثل:"رجل يتسلق ناطحة سحاب بيد واحدة لإبهار فتاة... فترفضه لأنه لم يصور المغامرة بجودة 4K!"
"دولة تُطلق عملة رقمية، ويُحدد سعر صرفها بناءً على عدد متابعيك على إنستغرام!"
"دراسة علمية تحذر: التفكير العميق قد يسبب الصداع، لذا ينصح الخبراء بالاكتفاء بالميمز والنكات السريعة ومجالسة الحمير حفاظًا على الراحة النفسية!"
أما برامج التوك شو، فتحولت إلى حلبات مصارعة صوتية، حيث يُحدد الفائز بعدد الصرخات التي أطلقها خلال الحلقة. حتى أن بعض البرامج تروج لحلقاتها بإعلانات مثل: "اشتباك بالأيدي، وضيف يلقي زجاجة ماء في وجه المذيع!"، وكأننا نشاهد نسخة إعلامية من المصارعة الحرة، لكن بدون قوانين أو حكّام!
وفي ظل هذا الانحدار، لم يعد السؤال "ما الذي يحدث؟" بل أصبح "إلى أي مدى يمكن أن يزداد العبث؟"
وسط هذا الجنون، يتساءل البعض ساخرًا: هل أصابتنا لعنة خفية جعلت المنطق يتبخر من حياتنا؟ هل نحن في عصر قرر فيه العقل أن يأخذ إجازة مفتوحة، تاركًا العالم ليُدار وفق معايير لا تخضع لأي قاعدة؟
وإلا، كيف نفسر أن بعض الزعماء يغيرون التوقيت الرسمي لدولهم فقط لإثبات استقلاليتهم؟ أو أن مجتمعات تحتفل بالطلاق وكأنه إنجاز شخصي؟ أو أن القنوات الإخبارية ترى أن معركة كلامية بين ضيفين أهم من أزمة اقتصادية تهدد ملايين البشر؟
ربما نحن نشهد تحولًا حضاريًا جديدًا حيث أصبح الغريب هو العادي، والمنطقي هو الشاذ، والعقل يُراقب المشهد من بعيد، يضحك، يهز رأسه في حيرة، ثم يهمس في أذن التاريخ:"سجّل عندك... هذا العصر، رسميًا، دخل مرحلة الهذيان الجماعي!"
لكن السؤال الأهم: هل نحن بصدد عصر جديد من "ما بعد المنطق"، حيث يصبح الجنون هو النظام السائد؟ أم أن هذا مجرد اضطراب مؤقت سيسجله التاريخ كمرحلة من العبث الجماعي قبل أن يستعيد العالم توازنه؟
الأيام وحدها تملك الإجابة... ولكن إلى ذلك الحين، استعدوا لمزيد من الفصول الساخرة لهذا العصر الذي من المؤكد أن الأجيال القادمة ستطلق عليه عصر الاستروكس والفودو ، مصحوبا بأغنية: توهان توهان توهان عالم مليان هزيان!