د.مارى جرجس رمزى تكتب: ( مرض اعتياد الأشياء )
وما أن رآه لأول مرة، ولأول وهلة، حتى سلبه عقله وأطاح باتزانه وتوازنه... وأخذ عهداً على نفسه أن يعمل جاهداً كادحاً ليقتنيه... وبالفعل اجتهد وكافح وادخر ثمنه واشتراه...
تلك الليلة الليلاء لم يغمض له جفن من الفرحة وفي صباح اليوم التالي انتفض من سريره كالريشة في غبطة ونشاط وإقبال غير مسبوق على الحياة لينطلق إلى عمله، خطواته تسابق الريح، حتى يصل بسرعة ويشارك فرحته مع زملائه وأصدقائه بعد أن اقتني ذلك( الموبايل) الحديث
مرت الأيام والأسابيع والشهور وإذ بلهفته الحارقة تهدأ ثم تهبط ثم تنطفئ تماماً.... والغريب في الأمر أنها تحولت إلى ملل !!
كيف تحول هذا الشخص المحترق شوقاً لاقتناء (شئ ما) إلى ذلك الشخص البارد تماماً الفاقد لأي مشاعر تجاه ما سلبه عقله (يوماً ما)؟!!
إنه مرض من أخطر الأمراض التي يصاب بها الإنسان ( مرض اعتياد الأشياء)
ما سر خطورة هذا المرض يا تُرى؟ ولماذا اعتبره _أنا شخصياً وبصفة خاصة جداً أخطر الأمراض؟
الحقيقة أن الخطورة تقبع في الآثار الجانبية لذلك المرض كونها السبب الرئيسي لتعاسة البشر.
تلك الآثار الجانبية المحتومة تشمل عدم الرضا، فقدان الشعور بالسعادة والتمتع بالنعم الموجودة بالفعل، التطلع إلى ما لا يملكه الشخص_ ليس بغاية الوصول إليه بالطرق المشروعة برضا وبهدوء _ وإنما للنقمة على واقعه الذي يخلو منه... لذا تمضي الحياة برمتها وكأن الإنسان في سباق مرهق مع الدهر يلهث إلى حد الاحتضار سعياً وراء كل ما لا يملك، وكلما امتلك بعضاً منه اعتاده وزَهَده في غضون أيام أو شهور ليلهث مجدداً في جوع أشد ونهم أعظم في سباق أحمق لا نهاية له إلا لحظة انتهاء حياته وخروج روحه منه وتيقنه التام أنه كان يطارد السراب أو خيطاً من الدخان....
كل ما ذكرت مسبقاً ينطبق علي الأمور المادية البحتة
أما أشد وأخطر درجات المرض عندما ينطبق علي الأمور المعنوية والنفسية اللامادية
فتجد شخصاً ناقماً على حياته وحظه وحاله متناسياً تماماً نصيبه من البركات التي_ ربما تمني أغني أغنياء العالم أن يقتني واحدة منها ويرهن أمامها كل ثروته وهو راضٍ كل الرضا بعدما تيقن أنها عاجزة عن شراء ما يحتاجه فعلياً ليكون سعيداً......
تغافل عن تلك الصحة (حتى ولو كانت منقوصة غير كاملة) التي تكفيه ليخدم بها نفسه ولا يكون ثقلاً أو عبئاً على غيره
تناسَي نعمة أن يفتح عينيه كل يوم صباحاً فيري بها كل شئ حوله ويستقبل بأذنيه كل لغات الطبيعة والمخلوقات ويفهمها بعقل سليم غير معطوب ويتجاوب معها في سيمفونية بارعة الجمال للخليقة الساحرة
اعتبره أمراً واقعاً أن ينهض من فراشه وتطأ قدميه أرض مسكنه ليخطو بهما في كل مكان دون الحاجة لكرسي متحرك أو عائل يعوله
لم يلاحظ بركة النسل الذي منحه الله وعليه أن يجيد تربيته وتنشئته ليكون مستحقاً للنعمة
تناسي وتناسي وتناسي... والعلة تكمن في ذلك المرض اللعين (مرض اعتياد الأشياء)
إن الإنسان_ يا أصدقائي_ لا يحتاج في الحياة من الماديات سوي ما يجعله مستوراً فيما يخص جسده المادي... أما الباقي الزائد فيتحول إلى رقم... رقم ميت
رقم من المال في البنك لا تستخدم منه سوي ما يسد احتياجاتك الحقيقية
رقم من الحُلِّي في علبة مجوهراتك ربما لا ترتدي ما بها إلا بضع مرات في مناسبات رسمية ويستمتع الدرج الخشبي في خزانتك بوجوده باقي الحياة
رقم من الثياب في خزانة ملابسك وربما تستريح في بضع قطع بسيطة توضع على جسدك
حقا ان كان لنا القوت والكسوة... الباقي كلها أرقام... أعداد ميتة.. تقف عاجزة مشلولة أمام رغبة في الإنجاب او لهفة للشفاء أو طلب لستر من الله في وقت قرر الله رفع ستره عن إنسان حان وقت عقابه عما اقترف من ظلم
السعادة أحبائي تكمن داخل الرضا والحمد والشكر الدائم.. وتلك الأمور لا تأتي إلا بالتذكير والوعي... تذكير النفس بنعم الله عليها التي لا تحصى ولا تعد ووعي الإنسان بقيمة كل نعمة منها على حدة.
يوجد أشخاص لا يتعلمون الدرس إلا بالطريقة الصعبة القاسية
فيدرك الصحيح قيمة عافيته حين يرقد على فراش المرض
ويدرك المرء قيمة الأولاد حين يصاب بالعقم
وتدرك الزوجة قيمة زوج طيب قليل الكلام كثير الفعل حين تسقط في براثن نصاب يجيد التلاعب بالعاطفة حتي ينال غرض دنئ فيخبر بعدها عن وجهه القبيح وطباعه الأقبح ومستقبله الملعون المظلم
ادركوا قيمة النِعَم... وخاصة النعم التي تعجز عن شرائها كل كنوز الدنيا ادركوها وهي معكم لتحافظوا عليها.. جددوا سعادتكم بها كل يوم وكل ساعة ولا تكونوا مثل الاغبياء الذين لا يدركون القيمة إلا بعد الفقدان
استشفوا وتعافوا من أخطر مرض في الحياة مرض التعاسة والتعساء (مرض اعتياد الأشياء..
