نزار عبد الجليل يكتب من فلسطين: الأسرى والشهداء
لم تتأسس الحركة الوطنية الفلسطينية بوصفها إطارًا إداريًا لإدارة واقع الاحتلال، بل نشأت كمشروع تحرري جذري، صاغته تضحيات الفئات الشعبية التي قدّمت أبناءها شهداء، وأجسادها أسرى، وأعمارها في المنافي والمخيمات. غير أنّ هذا المشروع، ومع تحوّلات تاريخية مفصلية، انزلق تدريجيًا نحو مسار مغاير، تمثّل في صعود فئة قيادية أعادت تعريف الوطنية بما يتلاءم مع شروط الاحتلال لا بما يناقضه.
يحذّر فرانتز فانون من لحظة تتحول فيها النخبة الوطنية، بعد انتقالها إلى موقع السلطة، من قوة تحرر إلى وسيط محلي يدير مصالح الاستعمار بدل تفكيكها. في الحالة الفلسطينية، لم يعد هذا التحذير مجرد توصيف نظري، بل بات واقعًا ملموسًا مع تشكّل سلطة محدودة السيادة، عالية القدرة على الضبط الداخلي، ومرتبطة في استقرارها الاقتصادي والأمني باستمرار بنية الاحتلال. ومع الوقت، لم تعد هذه السلطة ترى في الاحتلال عدوًا يجب اقتلاعه، بل واقعًا ينبغي إدارته وتحييد تداعياته.
ويشرح علي شريعتي هذا الانحراف من زاوية أخرى، حين تتحول الثورة من فعل تحرري أخلاقي إلى نظام يبحث عن الاستقرار ولو على حساب العدالة. عند هذه النقطة، يُعاد ترتيب القيم: يصبح ضبط المجتمع أولوية، وتُفرَّغ مفاهيم النضال من مضمونها، ويُستبدل خطاب التحرير بلغة الواقعية والانضباط. في هذا السياق، لم يعد الأسير والشهيد مركز الهوية الوطنية، بل تحولا تدريجيًا إلى “ملف” مزعج يجب احتواؤه أو تحييده كي لا يربك النظام القائم.
اقرأ أيضاً
بين المعاناة والتمثيل الإعلامي والدرامي.. ندوة فكرية تفتح ملف المرأة المهاجرة والمهجَّرة
المكدوس الفلسطيني.. وصفة أصيلة بطعم لا يُقاوم وتحضير سهل في المنزل
القضية الفلسطينية .. المغرب يجدد التأكيد على استعداده للانخراط في الجهود الدولية الرامية لتهيئة الظروف لإحياء مسار السلام في الشرق الأوسط
ملكة فلسطين تواجه ممثلة اسرائيل وتتمرد في مسابقة ملكة جمال الكون
ريتا جحا .. من تحت الأنقاض إلى مقعد بجانب الرئيس السيسي في احتفالية وطن السلام
محمد منير وحماقي يقدمان أغنية ضهرك يا فلسطيني في احتفالية وطن السلام”
رحيل ناصر دحبور المدير الفني للمنتخب الفلسطيني للكرة النسائية
بيا قسيس تنضم إلى ويتشيتا.. نجمة فلسطين تسعى للتألق في الملاعب الأمريكية
روسيا تدعم خطة الإدارة الأمريكية لتسوية الأزمة في غزة
ميلوني: خطة ترامب للسلام في غزة ”فرصة لا ينبغي تفويتها”
رئيس الوزراء الإيطالية تدعو أسطول المساعدات لغزة إلى التوقف الفوري
فرنسا تعترف رسميًا بالدولة الفلسطينية .. خطوة تاريخية نحو السلام
أما عند أنطونيو غرامشي، فإن هذا التحول يُفهم بوصفه انتقالًا من القيادة إلى الهيمنة. فالقيادة الثورية تستمد مشروعيتها من تمثيل الإرادة الشعبية، بينما تقوم الهيمنة على فرض تصور محدد للواقع باعتباره الممكن الوحيد. في السياق الفلسطيني، جرى إنتاج خطاب سياسي وثقافي يعتبر التكيّف مع شروط الاحتلال ضرورة وطنية، ويقدّم أي خروج على هذا الإطار كفوضى أو تهديد، لا كممارسة تحررية مشروعة.
تبلغ هذه المسارات ذروتها الأخلاقية والسياسية في قرار قطع أو تعليق مخصصات عائلات الأسرى والشهداء. فهذه الخطوة لا يمكن فهمها كإجراء مالي أو إداري عابر، بل بوصفها لحظة كاشفة لإعادة تعريف الوطنية ذاتها. فالأسرى والشهداء ليسوا فئة اجتماعية عادية، بل هم التعبير الأوضح عن كلفة الصراع مع الاستعمار، وحين تُعاقَب عائلاتهم، فإن الرسالة تكون واضحة: من يواجه الاحتلال يُجرَّم، ومن يتعايش معه يُكافَأ.
بهذا المعنى، لا يشكّل هذا القرار خضوعًا لضغوط خارجية فحسب، بل اندماجًا عميقًا في منطق الاحتلال نفسه، وتحولًا من سلطة تدّعي مناكفته إلى سلطة تشاركه وظيفة الضبط والعقاب. إنها لحظة فاصلة، إما أن تؤسس لتعميق هيمنة هذه الفئة على الواقع الفلسطيني، وتعزيز علاقتها الوظيفية بالاحتلال، أو أن تتحول إلى صدمة تعيد فتح السؤال الجوهري حول وظيفة السلطة ومنظمة التحرير ودورهما التاريخي.
داخل حركة فتح، التي شكّلت يومًا العمود الفقري للمشروع الوطني، يصبح هذا القرار اختبارًا وجوديًا لا يمكن تجاوزه. فالحركة التي تأسست على الكفاح المسلح وقدّمت آلاف الشهداء والأسرى، لا يمكنها أن تبرّر معاقبة عائلاتهم دون أن تدخل في قطيعة مع معناها التاريخي. وقد أدرك مفكرون فلسطينيون مثل إدوارد سعيد مبكرًا أن فقدان البوصلة الأخلاقية هو بداية فقدان الشرعية السياسية، بينما عبّر محمود درويش، بلغته الخاصة، عن الخوف من أن يتحول الوطن إلى إدارة بلا روح حين ينفصل عن الإنسان.
إن ما يجري اليوم ليس خلافًا تقنيًا حول سياسات مالية، بل صراع عميق حول معنى الوطنية ووظيفة التمثيل السياسي. فإما أن تُستكمل هذه السياسات بوصفها تأسيسًا لمرحلة تطبيع داخلي مع الاحتلال، أو تتحول هذه اللحظة إلى نقطة انعطاف يعاد فيها بناء المشروع الوطني على أسس تحررية، تُعيد الاعتبار للأسرى والشهداء بوصفهم مركز الهوية لا عبئًا عليها، وتحوّل السلطة من أداة ضبط إلى أداة تناقض مع الاحتلال لا تتعاون معه.
فالسلطة التي تعاقب ضحايا الاستعمار لا يمكنها أن تقود معركة التحرر، والنضال الذي لا يحمي شهداءه وأسره يفقد، في جوهره، حقه في تمثيل شعبه









