طه أمين يكتب: مع عظيم الاحترام ..يسرا والاجتزائية


ترددت كثيرًا قبل أن أتناول هذا الموضوع، لكني وجدت أننا أمام ظاهرة تستحق التأمل، ظاهرة انتقلت من العبث إلى الهزل المفضوح.
فجأة أصبحت يسرا «ترند»، بسبب مقطع قديم جرى اقتطاعه من حوار طويل، ثم أُعيد بثه خارج معناه، ليتحوّل من حكاية عن الثقة الفنية إلى قضية تُخدش بها الذائقة العامة.
تلك هي مشكلتنا مع تقنيات العصر: لا أحد يتوقف أمام السياق، ولا أحد يسأل عن نية القائل أو بيئة القول. كلمات يسرا كانت مجازًا عن إخلاصها للفنان يوسف شاهين، الذي رأته أبًا فنيًا وروحًا إبداعية نادرة.
فهل تغيّرت يسرا؟ أم تغيّرنا نحن، حين صرنا نحاكم الجملة بلا شاهدٍ من معناها؟
يوسف شاهين، الذي كان رمزًا للحرية والإبداع الإنساني، ويسرا التي كسرت النمط النسائي التقليدي في الفن العربي، تحوّلا في لحظة إلى عناوين صفراء، فقط لأن خيالًا مُحرّفًا قرر أن يرى ما لا يُقال.
وهنا يطلّ السؤال المؤلم: من يُحاسب من؟ الكلمة أم قارئها؟ القائل أم ناقله؟
إن أخطر ما في عصر السرعة ليس الكذب، بل نصف الحقيقة.
فالكلمة المبتورة تشبه مريضًا نُزع عنه الأوكسجين ثم طُلب منه أن يتنفس.
الاجتزائية ليست مجرد خطأ في الفهم، بل اغتيالٌ للوعي، لأنها تقتل السياق الذي هو روح المعنى، وتحول اللغة من جسرٍ للفهم إلى أداةٍ للإدانة.
لكن الأخطر أننا لم نعد نفرّق بين الفيديو الحقيقي والمفبرك، بين ما قيل فعلًا وما صُنع تقنيا.
المصيبة أن تجد نفسك، صوتا وصورة، داخل حوارٍ لم تخضه، ومشهدٍ لم تعشه، مصنوعٍ باتقان مذهل، تكون ضريبته أو نتائجه وخيمة على سمعتك أو حياتك.
إننا أمام تقنيات حديثة هي سلاح ذو حدين: تمنحنا الحقيقة لحظة، ثم تسلبها بخدعة مرئية في اللحظة التالية.
لقد صرنا لا نسمع الجملة لنتأملها، بل لنُدينها، ولا نقرأ لنفهم، بل لنؤكد شكوكنا المسبقة.
والاجتزائية اليوم لم تعد سلوكا فرديا، بل ثقافة كاملة؛ ثقافة تبحث عن الإثارة لا الفهم، وعن الصدمة لا الحقيقة.
ومن هنا يتحول الفنان إلى متهم، والمفكر إلى عدو، وكل كلمة صادقة إلى سلاحٍ ضد صاحبها.
الكلمة مثل الموجة، لا تُفهم إلا في بحرها. فإذا اقتطعناها من عمقها فقدت موسيقاها واتزانها وصارت شيئًا آخر.
والذين يجتزئون القول لا يرتكبون خطأً لغويًا فحسب، بل جريمة فكرية ضد اللغة والإنسان.
ربما آن الأوان أن نتعلم الإصغاء قبل أن نحكم، وأن نعيد للمعنى سياقه قبل أن نصدر حكمًا أخلاقيًا عليه.
فالحقيقة لا تُجزَّأ، ومن يقتطعها إنما يقطع عصب الوعي نفسه.