مروة نايل تكتب: بورصة الهبد..!
في نشرتنا اليوم من "بورصة الهبد"، ارتفعت أسهم "الدراما الصراخية" إلى مستويات لم تشهدها الإنسانية من قبل، مدعومةً بموجة من الأعمال التي تتفنن في تحويل الانفعال المفتعل إلى فنّ مزعوم، فيما أعلنت آخر البرامج الثقافية إفلاسها الرسمي بعد أن عجزت عن مجاراة برنامج مقالب بعنوان "ظايط عامل حفله لسكع عشرين قفا على غفلة" وسط تفاعل وترقب الجمهور الذي يتفاجئ بنهاية كل حلقة رغم تكرار محتواها كل يوم، وللموسم العشرتاشر على التوالي والتوازي دون انقطاع أو تعطل توربينات الزغزه أو تخفيف أحمال ، رافعا شعار "خلي الأمبير صاحي"
في هذا السوق، لا مكان للمنطق، القيمة تحددها خوارزميات لا تفرّق بين الموهبة والضوضاء، بين الإبداع و"الهري"، فيما يدير المشهد خلف الستار جيش من المضاربين الرقميين، الذين يتفننون في تحويل الرداءة إلى استثمار مضمون ، لا أحد يعرف كيف، لكنهم يفعلونها ببراعة تستحق الدراسة في مجلدات عن انهيار الذوق العام.
دعوني أعرفكم على "هبدان باشا"، شخصية خيالية لكنها واقعية جدًا، مضارب محترف في سوق التفاهة، لا يهتم بالمحتوى، لا يشاهد المسلسلات ولا يقرأ الكتب، بل ينظر فقط إلى عداد المشاهدات وعدد الريأكتات ، هبدان لا يحتاج إلى أن يعجبه شيء لكي يستثمر فيه، فمبدأه في الحياة "عنتبلي" بامتياز ، "طول ماأنا وإنتي والبهايم بخير ، يبقى الدنيا وما فيها " فرأس ماله وأهله وعزوته ، عدد "الرؤس" من جمهور المتابعين ، أما عن جودة المحتوي -أي إن كان- فشعاره دائما ، الجوده بالموجوده ، إذا انتابتك حالة صراخ لاتحبسها بين أربع جدران ، بل أطلقها في بث مباشر كي يجعلك نجم ، وإذا تعرضت لفضيحة ، لاتجعلها تتوقف عندك ، بل قم بتوثيقها صوت وصورة ليصعد مؤشر سهمك ، وهنيالك يافاعل اللايك والشير!
هبدان لا يعمل وحده، خلفه جيش من اللجان الإلكترونية، وغرف مظلمة مملوءة بحسابات آلية جاهزة للرد، التعليق، النشر، والهجوم، لا يهم الموضوع، المهم أن يتحول كل تافه إلى قضية رأي عام من خلال حملات الدفاع والهجوم الممنهجه بعدما يقسّم ذبابه الالكتروني مابين مؤيد ومعارض ويطلقه ليصطاد زبائنه رأس ماله وأهله وعزوته .
ولو عدنا بالزمن إلى الوراء، لوجدنا أن الأمر لم يكن كذلك ،كان هناك "رأفت الهجان" مسلسل درامي يحمل قصة وطنية، أداء متميز، حبكة مكتوبة بإتقان، جعلنا نعيش معه في عمق الصراع والتجسس، "ليالي الحلمية" المسلسل الذي رصد تحولات المجتمع بمشاعر حقيقية، وترك لنا حوارات تحفظها الذاكرة ، برامج إذاعية وتليفزونية ومقالات صحفية شكلت وجدان أجيال بقيم وثقافات ومعارف.
أما اليوم فالمشهد تخطى العبث بعبثين تلاته اربع خمس عبثات ، مع الاعتذار للكينج ، مسلسل بعنوان "يالهوتي ياخرابي" الجزء المش عارف كام، تبدأ الحلقة بمشكلة عائلية وتنتهي بكارثة إنسانية، وسط صراخ متواصل يجعلك تتساءل هل أنا أشاهد دراما أم تسجيل كاميرا خفية في عيادة نفسية العلاج فيها باحدث طرق السيخ المحمي ، لقد أصبح كل حوار درامي أشبه بمباراة ملاكمة لفظية لاتراعي قواعد اللعب النظيف ، حيث لا يفوز من يقول الأفضل، بل من يصرخ أولاً وأعلى، "انت اللي قتلت ابني يامجدي".
لكن من يدير هذه السوق فعليًا هم هوامير حقيقيون، يشبهون "هوامير البورصة"،-والهوامير مفردها هامور وهو نوع من السمك الكبير و هوامير البورصة تعبير دارج في العالم العربي، ويقصد به الأشخاص أو الجهات الكبيرة التي تملك قوة وتأثير كبير في سوق الأسهم- فهذه السوق لها هوامير، وهنا لا يتعاملون بالأسهم، بل بالتفاعل ، اللجان الإلكترونية هي مصانع "الهبد الموجه"، ترفع منشورًا تافهًا وتجعل منه محور الحياة، الذباب الإلكتروني هو السلاح الصامت في توجيه السوق، يرفع نجمًا لا يستحق، ويدفن محاولة إبداع حقيقي تحت سيل من السخرية المنظمة والهجوم المصطنع.
وفي هذا المناخ، لا ينفجر شيء، فقاعة تفرغ، وتبدأ أخرى،
ومع كل هذا، يظل السؤال الأهم ، هل نحن مجرد متابعين سلبيين؟ الحقيقة ياساكينه ولا غير الحقيقة "بصوت عبدالعال" أننا مساهمون نشطون في هذه السوق كل لايك، كل شاهد الفيديو حتى النهاية، كل تعليق غاضب أو ساخر، هو استثمار جديد في فقاعة مستمرة، أما المفاجأة اللي كلنا عارفينها ورغم كده بنتفاجئ بيها كل مرة للموسم العشرتاشر إننا راس المال والأهل والعزوة وطول مااحنا بالنسبه له بخير ومتفاعلين يبقى الدنيا وما فيها .
قد يكون الانسحاب صعبًا، لكن ليس مستحيلاً،قد لا نغير العالم، ولكن يمكننا أن نقرر سحب استثماراتنا من سوق يربح فيه الأغبياء على حساب العقول ،فقط انتبه، حتى لا تصبح فريسة للذباب .
