نهى الرميسي تكتب.. قراءة لكتاب د. الهباء

كتاب (طوفان الأقصى) للأستاذ القدير مؤمن الهباء توثيق للحظة تاريخية شديدة الخطورة، وهو توثيق ميزه الأسلوب السلس الذى عودنا عليه الأستاذ الهباء والذى يمكن تشبيهه بسيولة الماء حيث يحمل المعنى بمنتهى الخفة ليتلقفه العقل بعد أن يخط فيه مسارات مميزة كما يفعل تيار الماء.

وحين أقول أهمية هذا الكتاب من كونه توثيقا للحظة التاريخية الفارقة التى نعيشها، فهو الدور الذى ينبغى أن يضطلع به المثقفون، بل ينبغى أن نوثق جرائم العدو ونُنَظِّر لها ونترجمها لكل لغات العالم وننشرها على السوشيال ميديا قدر المستطاع (برغم الحظر المعروف من أصحاب الميديا العالمية والسيطرة عليها) ولا نكتفى بكتاب واحد أو اثنين او عشرة بل مئات الكتب التى ينبغى أن تشرح وتُنظِّر للقضية على وجهها الحقيقي، لنسجله فى صفحات التاريخ ولتعلمه الأجيال القادمة.

الكتاب أيضا يعد منارة للفكر، فهو خلاصة وعى متجذر لدى الكاتب وفكر متقدم ، فكل حرف فيه يعبر عن خلجة من خلجات النفس الواعية، ويكشف عن خبايا المشهد العالمى ويفضح زيف الدجالين والمنبطحين ويحفز الشرفاء ليزداد يقينُهم بصلابة مواقفهم وتزداد ثقتُهم فيما ركنت فطرتُهم إليه.
ولنأخذ أمثلة من فصول الكتاب وقد تميزت كلها بالتركيز وحسن العرض:
تعرض الكتاب تحت عنوان (الخارجون على الصمت) لهؤلاء من المثقفين الغربيين الذين تجرأوا وتحدثوا عن الكيل بمكيالين والدولة المارقة وغير الخاضعة للقانون الدولى ولا لأى من المواثيق العالمية (الفصل 16 ص77) وهنا أتذكر لقائى الإذاعى مع المفكر الأمريكي نورمان فنكلستين تلميذ تشومسكى، وهو من أبوين يهوديين قضيا فى المحرقة المزعومة، ولكنه ضد الحركة الصهيونية وضد قيام دولة إسرائيل،وهم يمنعون دخوله دولتهم ويسمونه كاره لنفسه، قال عنهم: إنهم لصوص مبتزون، وحين سألته، هل هذا سباب؟، قال: لا بل هو وصف حقيقي لهم فقد سرقوا أرض الغير ويمارسون الابتزاز على أوروبا والألمان والغرب كله.. الأهم والأخطر أن الرجل بمنتهى الواقعية ناشد العرب بأن يجتمعوا ويوجهوا ضربة قوية لهذا الكيان وأن هذا هو السبيل الوحيد لتأديبهم من ناحية، ولتحقيق استقرار ونمو حقيقي فى الدول العربية من ناحية أخرى.

وقد جاء الفصل الرابع من هذا الكتاب (المقاومة مفتاح السلام) ليؤكد فكرة السلام المبنى على القوة، لأن غير ذلك هو استسلام.

والحق أن هذا الكتاب طرح بشكل واضح قضية التحيز للصهيونية العالمية والكيل بمكيالين ونبه إلى عدم الثقة في الشريك الأمريكي كوسيط غير عادل، وقد شاهدنا بالأمس إيلون ماسك على حسابه على تويتر ينشر صورا للقصف الإيراني على إسرائيل فى حين تجاهل بشكل تام ومتعمد ما يحدث منذ عام من قصف وحشى على غزة ومؤخرا على لبنان والضاحية الجنوبية وغيرها.

كما أشار الكاتب إلى السيطرة على المنظمات والهيئات القضائية الدولية مثل محكمة العدل الدولية والجنائية الدولية ومجلس الأمن والهيئات التابعة للأمم المتحدة... وكلها لم تراعى العدل فى شئ وإنما هى ديكور كما اطلق عليها فى فصل مستقل، وربما يذكرنا هذا بالمفكر الفرنسي روجى جارودى ونعلم حجم المعاناة التى عاشها بسبب آرائه، حين ناشد الدول الإسلامية فى العالم بأن تنشئ تحالفات وكيانات اقتصادية مستقلة عن الهيئات الدولية القائمة التى يسيطر عليها الصهيونية... وجاء الفصل الثالث فى هذا الكتاب تحت عنوان (الانعتاق من الهيمنة الغربية) وشرح الكتاب تفاصيل فكرة الهيمنة الفكرية.

أيضا من الفصول المهمة جدا والحقيقة أن كل فصل وكل كلمة فى الكتاب مهمة ومرجع لمن أراد أن يفهم الوضع بوضوح شديد فهو كتاب كاشف ومنارة بمعنى الكلمة، الفصل السابع ص41 بعنوان (إعادة تعريف المصطلحات) وأقول ضبط المصطلح هو موضوع يجب أن يهتم به المثقفون وعلى الرغم من أننا كنا ننادى به منذ عقود فى برامجى الإذاعية ولفت له كثيرون وعلى رأسهم الراحل الكبير د. المسيرى رحمه الله، ولكن الاستجابه له ضعيفة جدا..وأذكر مقولته أيضا فى تسجيل معه لبرنامجى كيف يفكر العالم : انه ينبغى علينا أن نستحوذ على المصطلحات الإيجابية خلال الصراع ولا نتركها تقع فى أيدى عدونا وتصدر للعالم من جهته.

هذه المصطلحات الإيجابية مثل: السلام، والعدالة، والحرب الأخلاقية، حتى تقسيم العالم شرق وغرب جاء وفقا لمكان الدول الاستعمارية على خريطة العالم.. وهكذا.

وقد لفتتنى قنوات عربية مناصرة للحق الفلسطينى يجيزون فى نشراتهم الإخبارية، كلمات مثل (جيش إسرائيل.. بينما هو جيش الاحتلال) و (أسماء الأماكن والمدن مثل محور فيلادلفيا بينما هو محور صلاح الدين) و(المستوطنات.. وهى مغتصبات.. وهى من ابجديات المقاومة المحمودة).. ومن هنا يتأكد لنا دور اللغة، ولغة الإعلام تحديدا التى تخاطب العامة وتخاطب الآخر فى كل أنحاء العالم أيضا، وكان المرحوم الأستاذ فاروق شوشة يشيد بدور الصحافة على نحو خاص، دورها فى خلق لغة وسيطة بين الفصحى والعامية، لتصل المعلومة بشكل سريع.

وقد طرح الكتاب بشكل دقيق مصطلح (المقاومة) من حيث الفكرة والهدف والقيمة والتكوين والكيان وكل شئ.

وأجاد الكاتب حين طرح أيضا حلولا لكثير من المشكلات الإقليمية التى وصَّفها بدقة متناهية، ولم يكتف بالتشخيص وإنما وصف العلاج بدقة.

واعتقد لو تأخر صدور هذا الكتاب قليلا كنا سنقرأ فيه بالتأكيد فصلا عن الاغتيالات السياسية والتى هى دأب إسرائيل المستمر، واستخدمته بشكل همجى مستفز، ثم استخدمته مؤخرا كمنهج للقضاء على قادة المقاومة وحزب الله وغيرهم من القادة الإيرانيين. وقد منحتهم الولايات المتحدة الأمريكية هذا الحق منذ بداية معركة الطوفان، وننتظر كتابا فى هذا الموضوع فهو يستحق أن يفرد له كتابا بالفعل.

بقى أن أتقدم بالشكر والتهنئة على هذا الكتاب القيم وكل أمنيات التوفيق للأستاذ مؤمن الهباء، والشكر موصول لحضراتكم جميعا.