أشرف أبو جليل يكتب: قصة قصيرة .. شكر الله سعيكم!


(1) قال أبو فهد بواب العمارة للواقفين أمام باب شقة الدكتور فؤاد متأففين من الرائحة الكريهة:
- أنا لا أعرف غير تليفون ابنته التي تقيم في باريس، وليس معي رصيد في الهاتف لكي أخبرها بالرائحة التي تنبعث من شقة والدها ، فكتبت لها رسالة على الهاتف أستأذنها في كسر باب الشقة ، لأنني لم أر أباها صاعدا ولا هابطا بالاسانسير منذ أسبوع ، وتنتابني شكوك في موته وحيدا، لكنها لم تقرأ الرسالة الى الآن.
- "لابد من إخطار الشرطة قبل كسر الباب" ، قال المقدس دانيال، الذي يقيم في الطابق السادس ، ويقف مصفر الوجه مبتعدا عن المجموعة الواقفة.
- " إكسر الباب يا أبا فهد ، فلا داعي للخوف من الإجراءات فنحن سنشهد بما وجدناه" قال المحامي الشاب الذي يقيم في الشقة المقابلة
بضربتين فقط من قدم وكتف أبي فهد فُتح الباب، الذي كان خشب مزلاجه مفتتا من كثرة تغيير الأقفال، لنسيان الدكتور فؤاد المتكرر لمفاتيحه بالداخل ، الرائحة ازدادت ، دلف ثلاثة من الواقفين داخل الشقة وتوقف ثلاثة على السلم بالخارج وأمعاؤهم تتقلب من الرائحة وجدوا الجثة مكورة بجوار المكتب
أخذ المحامي رقم الابنة
- صباح الخير يادكتورة أنا جار والدك ، نعم نعم ، كلام أبي فهد صحيح ، وجدناه متعفنا ، سنبلغ الشرطة وننتظر ردك للتصرف "
- لا حول ولا قوة الا بالله ، سأحجز على أول طائرة
(2)
"البقاء لله ، والدي مات وحيدا في شقته من أسبوع " جملة دونتها الدكتورة ملك على صفحتها على الفيس بوك ، وخلال ساعة امتلأت الصفحات نعيا ، وتعددت صفات الراحل حسب الناعي "قديس البحث العلمي - راهب العلم – المناضل – نصير الغلابة – العالم الاديب – شيخ العرب – النقيب الهمام -وكيل الوزارة – فخر المحافظة – خسرنا رمزا كبيرا – الموسوعي – الشاعر الأديب – أستاذ الجامعة – البرلماني الأسبق "
وتعددت صفات الناعين : وزير التعليم العالى - رئيس الجامعة – رئيس التحرير – رئيس الحزب – نقيب المهندسين –– رئيس اتحاد الكتاب – نائب الدائرة – المحافظ
(3)
قال الطبيب الذي وصل بناء على استدعاء وكيل النيابة: أن الجثة وصلت لمرحلة التحلل، ويقترح عدم نقلها للتشريح ، فلا توجد شبهة جنائية واضحة ، فوافق وكيل النيابة على الرأي الطبي، ونظر الى الرجل الوحيد الموجود من الجيران وقال له : ستلحق بي للمستشفى لاستخراج شهادة الوفاة.
فتلعثم أبو فهد وهو يسأل الطبيب عن رسوم شهادة الوفاة التي سمع عن ارتفاع رسومها من أيام وهو لا يملك في جيبه الا عشرين جنيها للمواصلات الى المستشفى والمبلغ الذي وجدته النيابة في دولاب الدكتور تحفظت عليه لحين تسليمه لابنته ،
نظر الجميع الى فهد نظرة لوم ، فقال أنه سيتصرف
(4)
- "أقرب موعد للطائرة غدا الخامسة مساء يا سيادة الوزير " بهذا ردت ابنة الدكتور فؤاد على وزير البحث العلمي الذي قدم العزاء هاتفيا ، وانهمكت في استكمال السيرة الذاتية لوالدها التي طلبها رئيس تحرير أهم الصحف الصباحية لينشر خبر موت الدكتور في الصفحة الأولى مشتملا على نعي المجلس الأعلى للإعلام والبرلمان ووزارة البحث العلمي والنقابات والأحزاب وعدة جهات أما التوسع في تفاصيل الوفاة فسيكون في صفحة الحوادث
(5 )
همس أبو فهد في أذن الحاج عبد السلام صاحب السوبر ماركت :
- الستمائة جنيها التي جمعتها من سكان العمارة للجثة صرفت ، فقد اشترينا الكفن ثلاث طبقات مع مستلزمات الغسل بستمائة جنيه، والحانوتي يطلب الآن خمسمائة جنيها مهددا " الجثة متعفنة ولن يقبل حانوتي آخر أن يغسلها" ، فأخرج الحاج عبد السلام المبلغ وأعطاه لأبي فهد
(6)
خمسة برامج فضائية خصصت فقرة عن الفقيد الراحل الدكتور فؤاد ثابت حلمي ، وعن جهوده وحياته ومسيرته ، مشيرة الى نضاله السياسي السابق ، ودوره البرلماني ، ونزاهته عندما كان وكيلا للوزارة، ومحاربته الفساد ودقته أثناء عمله كأستاذ جامعي ، ودوره الخدمي في النقابة ، وأسرته العريقة وأشقائه الخمسة الذين رحلوا قبله ، وأبناء أشقائه القرويين الذين لا يتواصلون معه منذ عشرين عام، نظرا لأن المغفور له كان قد اعتزل في شقته منذ سفر ابنته الوحيدة لفرنسا، متفرغا لأبحاثه وتأليف الكتب العلمية
(7)
وصف أبو فهد ما يجرى أنه "وقف حال " .
فلم تأت ابنة الدكتور رغم مرور يومين، لاضطراب الرحلات الجوية ، وسكان الأدوار الأربعة تحت وفوق شقة الدكتورتركوا شققهم، وذهبوا للمبيت عند أقاربهم ، هروبا من الرائحة التي لا يطيقونها، ولم تفلح زجاجات العطور الشعبية ودخان البخور الخارج من الباب في إخفاء الرائحة ، الأمر الذي جعل أبا فهد يتجه الى النيابة، طالبا نقل الجثة لثلاجة المشرحة لحين وصول بنت المتوفي.
وحين جاءت سيارة الإسعاف لنقل الجثة لم يحمل النقالة الا موظف الإسعاف وسائق السيارة، وانطلقا بها تاركين أثار الرائحة تملا المكان .
(????
أمام باب المشرحة وقفت الدكتورة دامعة العينين أمام عدد من الكاميرات وعدسات الهواتف التي تبث المقابلة معها بثا مباشرا وانفك كل مراسل أو صاحب صفحة على المواقع في تدبيج القصص الواقعية والخيالية بل والخرافية عن الراحل وعن الجثة وعن الجنازة التي لم يسر وراءها أحد ، ولم يقل أحد لآخر " شكر الله سعيكم "